
يتميز الكاتب و المسرحي و الأكاديمي السعودي رجا العتيبي بإسهاماته المتنوعة في مجالات التأليف المسرحي والإخراج والبحث الثقافي، حيث يمتلك رؤية نقدية وفكرية متعمقة تجاه قضايا المسرح والدراما من كتابة السيناريو إلى الأداء التمثيلي إلى ثنائية الواقع و المتخيل و غيرها من المسائل التي من شأنها أن تؤسس لعمل فني متكامل. أما فيما يتعلق بأعماله الفنية فيجمع العتيبي بين الحس الإبداعي والوعي الفلسفي، كتابة و إخراجا، إذ منحته هذه الثنائية الثقة :»بأن العمل سيصل إلى الجمهور على الشاشة أو على خشبة المسرح كما تخيلته تمامًا» حسب تعبيره. كما أسس العتيبي و أدار مسرح شباب الرياض لعدة مواسم منذ عام 2012، مقدمًا منصة لاحتضان المواهب الشابة، إلى جانب مشاركاته مع هيئات وفعاليات ثقافية كبرى. و بين الكتابة و المسرح و متابعته للساحة المسرحية و الدرامية يواصل - الأكاديمي المحاضر بقسم السينما و المسرح بكلية الإعلام و الاتصال - رجا العتيبي مشاريعه البحثية و التجريبية التي تستهدف الارتقاء بالمسرح السعودي وربطه بالاتجاهات العالمية المعاصرة سواء من خلال المسرحيات أو الإصدارات ككتاب التنوير في المسرح السعودي أو تجارب فنية مستقبلية يعلن عنها قريبا. في لقاء جمعه بمجلة اليمامة ، كان لنا هذا الحوار المنفتح على مسائل ثقافية متنوعة مع الكاتب و المسرحي و المثقف السعودي رجا العتيبي . * ثنائية الكتابة و الإخراج في المسرح أو السينما أو حتى الدراما المسلسلات : ماذا منحتك؟ إن الجمع بين الكتابة والإخراج منحني الكثير. يكفي أن التعديلات التي قد تطرأ على النص، تحدث بمعرفتي ومن منظور رؤيتي الإبداعية، لا من منظور آخر. فالتعديلات على النصوص تمثل أزمة كبيرة في الإنتاج السعودي؛ إذ ما إن تسلّم نصك إلى الشركة المنتجة حتى تتفاجأ بأنه أصبح شيئًا مختلفًا: حوارات لم تكتبها، أحداث لم تضعها، وقصة لم تروها أنت. لكن عندما أكون كاتبًا ومخرجًا في الوقت نفسه، أكون قائد السفينة، ولا يقودها سواي. هذه الثنائية تمنحني ـ وتمنح كل صاحب رؤية إبداعية ـ الثقة بأن العمل سيصل إلى الجمهور على الشاشة أو على خشبة المسرح كما تخيلته تمامًا. * في إحدى حواراتك قلت أن «الدراما هدفها صناعة عالم متخيل مستقل عن الواقع الذي نعيشه و تأسيس قيم الجمال» إلى أي مدى نجح كتاب السيناريو في السعودية في خلق هذه المعادلة؟ أرى أن قلة فقط من كتاب السيناريو في السعودية نجحوا في تحقيق هذه المعادلة. فالدراما فن قائم بذاته، له معاييره ومنطلقاته الفلسفية، سواء في جذوره الكلاسيكية عند أرسطو في التراجيديا، أو في امتداداته المفاهيمية الحديثة كما لدى بول ريكور أو مارثانوسباوم. الدراما تقوم على محاكاة الواقع، لكنها تصنع عالمًا دراميًا مغلقًا، منفصلًا عن الواقع المباشر. هذا العالم يناقش مشكلات البطل والشخصيات المحيطة به ضمن سياقه الخاص، بعيدًا عن قضايا الواقع اليومي المباشر. فالبطل في الدراما ليس لديه وقت لمناقشة مشكلات العالم الحقيقي، لأنه غارق في صراعاته ومآسيه داخل هذا الكون المتخيل. من هنا، يتحقق أثر الدراما في المتلقي: إذ تعمّق رؤيته للحياة، وتمنحه منظورًا جديدًا، وتجدّد إحساسه بالوجود تبعًا للمأساة التي يشاهدها. لكن هذا يتطلب من المبدع فهمًا عميقًا لفلسفة الدراما، واطلاعًا واسعًا، ومشاهدات نقدية، ومعرفة دقيقة بمنطلقاتها الفكرية، حتى تتشكل لديه شخصية فنية متماسكة. المشكلة أن كثيرًا من الكتّاب يقدّمون أعمالًا تمثيلية خارج إطار الدراما الحقيقية، ويطلقون عليها اسم «دراما»، وهذا خلط واضح. لكل فن منطلقاته ومعاييره، ولذلك فإن تحرير المصطلحات أمر أساسي للعاملين في هذا المجال. وبسبب هذا الخلط، لا أرى سوى القلة الذين تمكنوا من تقديم أعمال درامية حقيقية، أو على الأقل أعمالًا تنتمي بوضوح إلى مدارس فنية أخرى معروفة. * مؤسس و مدير مسرح شباب الرياض لمدة أربعة مواسم منذ 2012، كيف تقيمون هذه التجربة خاصة أنها تهدف إلى دعم المواهب المسرحية الشابة؟ عندما أسست مسابقة مسرح شباب الرياض عام 2012م بجمعية الثقافة والفنون بالرياض، كانت واحدة من أهم وأشهر المبادرات المسرحية في ذلك الوقت، وكان لها تأثير واضح وكبير على المشهد المسرحي المحلي. استمرت لعدة سنوات وهي تفتح الأبواب أمام الممثلين الشباب ليقدموا أنفسهم على خشبة المسرح، في وقت كانت المنصات المتاحة للمواهب قليلة جدًا. كانت جمعيات الثقافة والفنون آنذاك هي الحاضنة الرئيسية للمسرح، وهذه المسابقة تحولت إلى مصنع للمواهب. كثير من المنتجين في المسلسلات والمسرح كانوا يستعينون بخريجيها. كنا نحرص على إعداد قوائم بأسماء المشاركين وسيرهم الذاتية، مرفقة بـ»سيديهات» تحتوي على لقطات ومشاهد فيديو من عروضهم، ليستخدمها الموهوب في التسويق لنفسه، سواء عند التواصل مع المنتجين أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، وكان الفيس بوك حينها المنصة الأشهر. كانت التجربة ناجحة ومؤثرة، بفضل تعاون زملاء شغوفين بالعمل المسرحي مثل: د. شادي عاشور، وبندر عبد الفتاح، ونايف بركة المطيري، والمنذر النغيص، وبدعم ومساندة من مجلس إدارة جمعية الثقافة والفنون بقيادة د. محمد الرصيص. * منصة مختبر تصميم السياسات الثقافية التي أطلقت بمبادرة من وزارة الثقافة، كيف تقيم نتائجها اليوم على القطاعات الثقافية و خصوصا على المسرح و السينما؟ أعتقد أن منصة مختبر تصميم السياسات الثقافية تجربة مبتكرة ومهمة للغاية في المشهد الثقافي السعودي. هي نموذج تشاركي يفتح المجال أمام الممارسين والمهتمين ليكونوا جزءًا من صناعة السياسات، بدل أن تكون هذه السياسات مفروضة من الأعلى فقط. هذه الفكرة بحد ذاتها خطوة متقدمة، لأنها تعني أن الصوت الإبداعي، سواء كان من المسرح أو السينما، يمكن أن يكون حاضرًا في رسم ملامح المستقبل. رغم أن انطلاقة المختبر كانت من قطاع الأفلام، إلا أن آلية عمله تسمح بتوسيع التجربة لتشمل المسرح وبقية القطاعات، وهذا ما يجعلني متفائلًا جدًا. المسرح والسينما بحاجة إلى سياسات مرنة، متجددة، ومبنية على فهم عميق لتحديات الميدان، والمختبر يوفر بيئة حوارية وإبداعية يمكن أن تلتقط هذه التحديات وتحوّلها إلى حلول عملية. ربما ما زال من المبكر الحكم على النتائج النهائية، لكن من حيث الفكرة والمنهجية، أرى أنها مبشّرة جدًا، خاصة إذا استمرت الوزارة في إشراك الممارسين الفعليين من كتّاب، ومخرجين، وفنانين، في صياغة الرؤية. حينها يمكن أن نصل إلى سياسات تخدمنا حقًا، وتفتح للمواهب آفاقًا أوسع، سواء على خشبة المسرح أو على شاشة السينما. * من خلال تجربتك المسرحية و متابعتك للشأن المسرحي السعودي و العربي ككل، هل يمكن القول أن المخرج المسرحي في بعض الأحيان يقتل النص، ليبقى السؤال بعد انتهاء العرض: أين النص؟ الأمر هنا يحتمل عدة سيناريوهات. في المعادلة النموذجية، عندما يجتمع كاتب مبدع مع مخرج مبدع، تكون النتيجة في الغالب مبهرة، حتى لو جرت بعض التعديلات على النص، لأن الرؤية الإبداعية تكون متكاملة. المشكلات تبدأ عندما نواجه المعادلات النقيضة: مخرج مبدع مع نص ضعيف، أو نص مبدع مع مخرج ضعيف. هنا تظهر الإشكالات المتكررة، التي غالبًا ما تترك الجمهور في حيرة، وكأن النص قد تلاشى وسط الرؤية الإخراجية أو ضعفها. المعادلة المثالية نادرة الحدوث في مسرحنا، وهذا ما يجعل المشكلة مستمرة. ولعل الحل يكمن في إدراك أن النص والإخراج جناحان لا يقل أحدهما أهمية عن الآخر، وأن غياب التوازن بينهما قد يفسد التجربة برمتها. * ألا ترى أن كثرة المهرجانات يمكن أن تقتل الإبداع؟ الأمر ليس حكمًا قاطعًا يمكن الجزم به؛ فالمهرجانات قد تقتل الإبداع، وقد تحفّزه، بحسب طبيعة البرامج وآليات التنظيم. البرامج المتوازنة هي المتطلب الرئيس من الجهات المشرفة والمشرّعة والمنظمة، مثل وزارة الثقافة أو الهيئات الفنية التابعة لها. من المهم أن تكون هناك بحوث سوق تدرس الاتجاهات وتقيس النتائج، وعلى ضوء هذه الدراسات تُتخذ القرارات المحفزة وتُطلق الأنشطة الإثرائية. فالسوق لا يسير وحده بشكل مثالي دائمًا، لأن هناك أطماعًا ومتسلقين وأنصاف مواهب قد يدخلون إليه فجأة، ولا يمكن ضبطهم بشهادات أو معايير علمية دقيقة كما في مهن كالطب أو الهندسة. لذلك، متابعة السوق ودراسته وفهم تحولاته أمر ضروري، حتى نعرف من يحتضن الإبداع ويحفزه، ومن يضعفه ويشوّهه. * اليوم نتحدث عن المسرح التفاعلي في السعودية مثل هذه التجارب المنفتحة عن الآخرإخراجياإلى أي مدى أثرت في كينونة المسرح السعودي؟ للأسف، المسرح المحلي – وكذلك الأفلام السينمائية – لم ينفتح بالشكل الكافي على التجارب العالمية. ظل حبيسًا لقرارات مسؤولين إداريين في الجهات الثقافية أو الفنية المحلية، لا يعرفون هذه الاتجاهات ولا يهتمون بها، وكل ما يقومون به هو تنظيم نشاط مسرحي بميزانية سنوية، ثم الاكتفاء بذلك. المؤسسات والإداريون بهذه العقلية مثّلوا مصدات حقيقية أمام المدارس والاتجاهات العالمية في المسرح والسينما. أي عمل فني جديد قد لا يلقى القبول لديهم، لمجرد أنه لا يسير وفق الاستراتيجيات الجامدة للمؤسسة الثقافية أو الفنية المعنية. أنا هنا لا أتحدث عن اليوم فقط، بل عن تاريخ طويل امتد لعقود. ولولا جمعيات الثقافة والفنون التي تبنت المسرح منذ زمن، لما رأينا حتى ما وصلنا إليه. صحيح أن بعض المسارح المحلية استضافت تجارب عالمية جديدة، لكنها كانت محدودة جدًا، وغير كافية، بسبب ضعف الإمكانات على جميع المستويات. وبإنشاء وزارة الثقافة عام 2019 والهيئات الفنية التابعة لها، تغير الوضع للأفضل، إذ أصبح العمل أكثر تنظيمًا ودعمًا، ويحظى بقرارات رسمية عليا. لكن طموحنا ما زال كبيرًا، وما زلنا نتطلع إلى مزيد من التحرر والانفتاح، حتى يبدع المسرح والسينما باستمرار، ويتغيرا تبعًا للاتجاهات الفنية الجديدة. * تستهدف رؤية المملكة 2030 تحويل النشاط الثقافي الى مجال انتاجي مستدام مثمر كيف تقيم الانتاج السعودي المرتبط بمجال الدراما و المسرح و الافلام انطلاقا مما تستهدف رؤية المملكة؟ رؤية المملكة 2030 وضعت الثقافة في موقع جديد، بوصفها قطاعًا إنتاجيًا يوازي القطاعات الاقتصادية الأخرى، وليس مجرد نشاط ترفيهي أو هواية نخبوية. هذا التحول أحدث فارقًا مهمًا، وجعل الإنتاج السعودي في مجالات الدراما والمسرح والأفلام يدخل مرحلة أكثر تنظيمًا ودعمًا. اليوم نرى مشاريع درامية وسينمائية ومسرحية تُنفذ بتمويلات واضحة، وبخطط إنتاجية تستند إلى أهداف اقتصادية وثقافية في آن واحد، وهذا لم يكن متاحًا بهذا الوضوح قبل الرؤية. هناك دعم منظم، وقرارات عليا، وهيئات متخصصة تتابع وتحتضن المشاريع. لكن رغم هذا التقدم، ما زلنا في مرحلة تأسيس البنية التحتية الحقيقية لهذا التحول، سواء من حيث الكوادر المتخصصة، أو التشريعات الداعمة، أو فتح السوق بشكل أوسع للمنافسة المحلية والعالمية. الطموح كبير، والرؤية فتحت الأبواب، لكن الوصول إلى إنتاج مستدام يحتاج إلى استمرار هذا الزخم، وإلى مشاريع تتبنى المعايير العالمية في الجودة، لتكون منتجاتنا قادرة على المنافسة، وتحقيق العائد الاقتصادي، إلى جانب القيمة الفنية والثقافية. * هل هناك روايات يريد تحويلها العتيبي الى الركح؟ كنت متحمسًا جدًا لفكرة تحويل رواية إلى فيلم، أو مسرحية، أو حتى مسلسل، خاصة مع الموجة التي نشهدها مؤخرًا في السعودية لتحويل الروايات إلى أفلام. لكن بعد دراسة واطلاع وقراءات معمقة في هذا المجال، تغيّر رأيي. أدركت أن الأمر لا يتجاوز في كثير من الأحيان فورة مؤقتة.الفن – أيًّا كان نوعه – لا يترعرع إلا في بيئته الطبيعية. كل قالب فني قائم بذاته، وله خصوصيته وأدواته. هذا لا يعني أن رأيي هو الحقيقة المطلقة؛ فهناك وجهات نظر تنطلق من فلسفة «العلوم البينية» التي ترى إمكانية التداخل والتمازج بين الفنون، وهذا صحيح ولا أنكره. لكن من وجهة نظري الحالية، تحويل الرواية إلى فيلم أو مسرحية ليس أمرًا سهلًا، بل هو مغامرة كبيرة، تتطلب مهارات خاصة، ووعيًا عميقًا بفنيّ الرواية والسينما أو المسرح على حد سواء، حتى لا نفقد روح العمل في عملية النقل والتحويل. * ما هي مشاريعك الفنية المستقبلية؟ مؤخرًا أنهيت عملين مسرحيين من تأليفي: «سنة واحدة من العزلة» لصالح هيئة الأدب والنشر، و»كانت غضبة» لصالح هيئة المسرح والفنون الأدائية. كلا العملين يمثلان بالنسبة لي محطات مهمة في مسيرتي، من حيث التجربة الفنية والنص الإبداعي. أما حاليًا، فأعمل مع الفنان راشد الشمراني على بحث علمي في مجال المسرح، أنهيناه مؤخرًا، وهو يشكّل الأساس النظري لمسرحية تجريبية قيد الإعداد. هذه المسرحية تستند إلى فكرة بدأنا تطويرها قبل سنوات، بالتعاون مع فريق مسرحي مبدع، ونسعى للحصول على دعمها من وزارة الثقافة ضمن إطار مشاريع الاقتصاد الإبداعي. نخطط للإعلان عن تفاصيلها الكاملة في نوفمبر المقبل – إن تهيأت الظروف – أو في منتصف شتاء عام 2026م بإذن الله. بالنسبة إلي، هذا المشروع يمثل مزيجًا بين البحث الأكاديمي والمغامرة الإبداعية، وهو ما أطمح أن يفتح آفاقًا جديدة للمسرح التجريبي في السعودية.