قراءة في كتاب ذاكرتي الأدبية للدكتور ناصر البكر..
سيرة أدبية ومساءلة عميقة للكينونة،ومحاولة جادة لاكتشاف المعنى.

إن ما يميز هذه السيرة أنها تجاوزت التقاليد المألوفة في كتابة فن السيرة الذاتية فلم تعتمد على تقنيات السرد الأدبي مثل الحبكة،أو الوصف، أو والحوار، و تنظيم السرد بشكل درامي يتّبع ترتيبًاً زمنيًاً ؛أو يعتمد على الفلاشباك (الاسترجاع) لإبراز لحظات محورية في حياة الشخصية، و تقسيم النص إلى فصول أو أقسام تركّز على مراحل حياتية أو موضوعات محددة ،وإن اعتمدت الفقرات أو النصوص القصيرة المعنونة الدالة على فكرة أو رؤية في سياق متّصل ، يأخذ بعين الاعتبار تطور الشخصية وثقافتها دون إغفال للسياق الزمني الضمني دون تحديده بتاريخ محدد؛ بل مقياسه الوحيد تطور الشخصية فكراً ووأدباً بذكر المؤثرات وحدودها ونوعها وقد برز صوت الكاتب بأسلوب مميز يعكس شخصيته ورؤيته للعالم، وقد تخلل السرد خطاب ذو طابع تأملي أو فلسفي يعكس التجربة الذاتية في خصوصيتها ، وقد استخدم الكاتب الضمير الأول لإبراز التجربة الشخصية، واختار لغة أنيقة متقنة، تتناسب مع السياق الثقافي واستخدم إيقاعاً لغوياً يحاكي المشاعر، مثل الجمل القصيرة للتعبير عن التوتر أو الطويلة للوصف التأم، وقد ركّز على التحولات الداخلية (مثل البعد النفسي والنضج الأدبي و الفكري ). الكلمة الوطن الباب و الدرج و العالم تمثيل للانطلاقة إلى عوالم مختلفة ، تصوّر وتصوير وتمثّل و تمثيل وأفق مفتوح على فضاءات بلا تخوم ، يبدأ الكاتب باستعراض سيرته الأدبية بشذرات (خواطر و انطباعات) تسجيل للبدايات الأولى عبرعنوان وامض مشع (طفولة الحرف ) وكأنه يقرن بين وجوده كمخلوق وارتباطه بالكلمة في أصغر وحداتها وأبجدياتها (طفولة الحرف) حيث التفرّد والتمايز؛ فإذا كانت الطفولة المعهودة مرتبطة بعشق اللعب واقتناء الألعاب فإن طفولته مرتبطة بالقراءة و اقتناء الكتب ، بداية انطلاقتها بدأت بالاعجاب بالجماليات و الرؤى بيت الشافعي بإيقاعاته ومضمونه الأخلاقي . يقرن الكاتب بين نهج سردي يلتقط حواشي الموقف ثم يعمد إلى تصويره ثم يرصد أثره ؛ اجترح طريقته الخاصة في الرّد فهو يدرك أنه يتجاوز الوقائع إلى ملاحقة أثرها في التكوين الوجداني و المعرفي ، يدقّق في التفاصيل ليستنطقها بما انطوت عليه من تأثير في نفسه وما خلفته من سمات تتضح شيئا فشيئا في تكوينه ، وهذا منهج في كتابة السيرة من شأنه أن يتقرّى البعد الإبداعي فيها، فتنسحب من عالمها الواقعي لتترجمه إلى دلالات وفق جماليات تجعل للسيرة (شعريتها الخاصة) متنائية عن الحكائية المألوفة و السردية المفترضة ، ولكنه لايغفل التوثيق والتأريخ فيذكر اسم النص الأول الذي اجتذبه وأثرى ذائقته . يقف الكاتب على مفترق الطرق فيصف موقفه من فنون الأدب (الشعر أو النثر) ،يعالج الأمر بوعي وموضوعيّة عبر محدوديّة الدائرة واتساعها بين الشعر و النثر محدّدا انجذاباته لهذا الفن أوذاك ، فالكتابة كما يراها فن من فنون النجاة ؛ فهو يكتب ليفهم ذاته و واقعه ، يذكر أثر مجالس الأدب والأدباء والمراجعات و الحوارات وكأنه لا يؤرخ لذاته بل يلتقط خصائص عصره ومصادر المعرفة في زمانه وجديّة الحوار فيها و سخاء الزمن الذي ينفق في سبيلها . يصف رحلته مع الكتابة وما توفره من إجابات لأسئلته الخاصة وفزعه إليها حين تلزمه الضرورة الملحة في داخله مستعرضاً مختلف الأشكال التي مارسها ، معتبراً التنقل من فن إلى آخر سلسلة من المراحل التي تطورت عبرها حياته الأدبية و ممارساته الكتابية و ما خلّفته من أثر في نفسه وفي فصل تال يؤكّد موقفه من اللغة بوصفها هوية معبراً عن عشقه للعربية مشيداً بها وبعشقه لها. وفي خطابه للشعراء يبين كيف تعلم منهم : شوقي وحافظ والبارودي ؛ فكأنّما يحكي سيرته الإبداعية معهم في منحى جديد ، السيرة من خلال الخطاب المباشر وليس عبر السرد؛ وكما كانت رسائله للشعراء تبدّت للكتاب معترفا لهم بما تلقاه من دروس على أيديهم: ابن القيم وابن الجوزي وابن الأثير و المنفلوطي ؛ فهو يبين لنا مصادر ثقافته عبر تقنية الرسائل، وهذا أسلوب غير مألوف في كتابة السيرة ، وهو يراوح بين أساليب عدّة : السرد والوصف و الرسائل واتقرير المباشر؛ ولكنه يلتزم بنظام مضطرد يدوّن وينظّم و يحلّل، ثمة إشارات دائمة إلى الاكتشاف و التطوّر من خلال القراءة عبر الاطلاع ، الأدب ضرورة للروح ثمرة التجربة والقراءة و الكتابة ، الرحلة لا تقاس بالزمن بل بالمكابدة فهي شاقّة وطويلة و حافلة بالمعاناة ، يمضي الكاتب في وضع المعالم يوازي بين المراحل زمنياً وفكرياً و نفسياً ، هذا المثلث الذي يضبط مسار الرحلة ، فيشير إلى الكتاب الذي يعد مفصلا من مفاصل السيرة : كتاب ابن الجوزي(صيد الخاطر) محددا ملامسته للأوتار الحساسة في نفسه في ثلاثيته الوجودية : النفس و الحياة و العقيدة عبر وسائل ثلاث : بساطة اللغة والحكمة والرفق فهو – على حد تعبيره = يثير ويصادق ويربت) وكأني به يستعيض عن الخلق في السيرة الذاتية التقليدية بالكتب ، وقد استعاض بمقولة إرنست همنجوي العزلة ليست هرباً ؛ بل هي عودة إلى الذات ؛ فالعزلة لديه إثراء للفكر عبر القراءة بدلاً من العلاقات الاجتماعية ؛ ففي هذه العزلة عقد أواصر اللقاء مع مؤلفين كبار منهم الفيلسوف والفقيه و المؤرخ و الأديب والروائي من مختلف العصور و الحضارات ؛ وهو إذ يفرغ من مرحلة التكوين عبر القراءة ينتقل إلى مرحلة الإنتاج عبر الكتابة ، بادئاً بلحظة البدايات وما رافقها من روافد القراءة الموازية فالمرحلتان متزامنتان متقاطعتان وليستا متوازيتين ؛ فالقراءة كانت تؤثّر وتغذّي وتعدّل و توجّه فكانت السرديات التي رأى فيها ببصيرته النافذة مأوىً ومرآة ومحرّضاً على التفكير واصفاً ما أحدثته في وعيه من أثر بالغ مستعرضاً مجموعة من السرديات لطه حسين و الحكيم و المنفلوطي وباكثير، ومشيرا إلى إعجابه بقامات فكريّة وأدبية تراثية يتمنى رؤيتهم ، مثل الأحنف بن قيس وأكثم بن صيفي وقس بن ساعدة ، ماضياً في تقصّي مختلف جوانب الإبداع الأدبي ونقده ،قديماً وحديثاَ، مشيرا إلى المدارس الأدبية وعصور الأدب منذ العصرالجاهلي حتى العصر الحديث ، وصولاً إلى الأدب السعودي بادئا بالعشماوي صوت الضمير كما وصفه، و عبد الكريم الجهيمان عنوان الاعتدال الفكري ،وعبدالله بن إدريس المعبر عن الوجدان الإسلامي ، ويمضي إلى تقصّي النصوص التي شكّلت رؤيته فيذكر قصائد لكلٍّ من العباس بن مرداس (معبرا عن خداع المظهر : ترى الرجل النحيف فتزدريه) وطرفه بن العبد وحكمته (إن كنت في حاجة مرسلاً) و النهشلي (إنا محيّوك ياسلمى) وقصيدة زهير في معلقته الشهيرة ، وإيليّا ابوماضي في قصيدنه المتفائلة(أيهذا الشاكي) و المقنّع لكندي وكرمه (يعيّرني بالدين قومي) والفرزدق في نقيضته الشهيرة (إن الذي سمك السماء) وقصيدة حافظ وتغنّيه باللغة العربية ، والبُستي و المتنبي وأبو اسحق الألبيري ، وكل قصيدة تعبر عن قيمة أخلاقية أو إنسانية أو حكمة شاردةأو مثلٍ سائر. ويتوقف الكاتب عند محطة مهمة انطلق منها واتكأ عليها ممثلةً في الوالد المفكر و الأديب و المربي ،وأثره في التكوين اللغوي والأدبي بشيء من التفصيل و التوقير، والتركيز على الجانب اللغوي نحواً وبلاغة على نحو متفرّد متميّز ومكانته بوصفه لسان قومه و مدينته : عبد الله تركي البكر أديب حائل ، وأحد أركان الفكر والأدب فيها المعلم وحادي الركب ؛ وهو إذ يفرغ من تقديم الوالد برّاً به و وفاء له ، ينثني ليتحدّث عن الكتب التي أثّرت في مسيرته وأغنت حافظتَه وصقلت فكره و وجدانه ، ذكر منها تسعة كتب لللمبرد والمنفلوطي و عبد الله البكر والجاحظ و الرافعي وغيرهم ؛ ثم عاد فأشار إلى الأعلام الذين أثروا في تكوينه الفكري و الوجداني والأدبي فذكر الشافعي و(أبوالعتاهية) و المتنبي والرافعي والجاحظ واصفا كلاً منهم بما عُرف به متميزاً عن غيره ، وذكر منابع المعرفة ومناهل العلم موثّقاً لها واصفاً لأثر كل منها في تكوينه الأدبي : مكتبة الوالد و مكتبة إدارة التعليم ومعارض الكتب و المكتبات التجارية ورحلة البحث عن العلم في دمشق وقد أطر كل تلك بذكر القرآن الكريم و الحديث الشريف. وفي الختام ينتهي الكاتب إلى جملة من الخلاصات التي استنتجها من رحلته الأدبية ، وهو مالم ينتبه إليه كثير من كتاب السيرة و الهدف منها ؛ وأهم هذه الخلاصات: الكتابة كينونة فنحن نكتب لنفهم أنفسنا ، من نحن ؟ والكتابة تصنع الذاكرة ؛ ويشير إلى أنه حينما يكتب عن المعلقات يتعرّف إلى صحرائه الخاصة، وأن اللغة عنده تشابه الدواء والكتابة موقف وجودي ومرآة الروح في لحظة صفاء .وأنه يكتب ليبقى و ليتغيّر. وهكذا فإن السيرة في مفهومه بوح و نبش في الذاكرة، و تعرّف إلى الذات في رحلتها مع خصائصها التكوينية وتجربتها مع القراءة و الكتابة ، ومساءلة عميقة ومحاولة جادة لاكتشاف المعنى.