
“أندر من الكتاب الجيد، القارئ الجيد” عبارة قالها الفيلسوف و الكاتب الإنجليزي فرانسيس بيكون، حكمة يعلو صداها مع مرور السنين. القراءة بوابة حقيقية للمعرفة بحد ذاتها و مفتاح لبوابات أخرى تأخذ بيد الإنسان نحو عوالم غنية بالتاريخ و العلوم و الأدب. حقيقة أن يكون الإنسان شغوفاً بالقراءة هي نعمة و هبة لا تقدر بثمن، و المحروم من محبة القراءة حرم من خيراتها و ثمارها الشيء الكثير. من اعتاد القراءة وجد فيها الراحة و عظيم الفائدة ما يكفيه ليستمر فيها، و من لم يعتادها فكل وقت هو وقت مناسب للبدء في هذه الرحلة التي تستقبل مرتاديها بكل محبة في كل زمان و مكان وبكل لغات العالم. الغايات من القراءة عديدة و تختلف باختلاف طباع و شخصيات القراء بالإضافة إلى مجال و طبيعة الكتاب نفسه. لكن، كيف يمكن للمرء أن يكون قارئاً جيداً؟ سيتفق الجميع بأن نسيان أحداث و نهاية رواية ما أو عدم تذكر ما قد تم الاستفادة منه من كتاب آخر أمر غريب، فقد ينظر القارئ إلى غلاف كتاب ما وضعه على الرف و كان قد أمضى في قراءته أيام طوال، و هو في حالة من الاستغراب، كونه متأكد من أن هذا الكتاب من أحب الكتب إليه لكن تفاصيل كثيرة فيه قد غابت عن البال بغيابه من بين يديه. من أبرز الدراسات التي أجريت بهذا الخصوص هي تلك التي قام بها بعض العلماء من جامعة تورونتو الكندية، مفادها أن النسيان ما هو إلا دلالة على قدرة الدماغ العالية و مؤشر على ذكاء الشخص، حيث صرح هؤلاء العلماء بأهمية أن ينسى الدماغ التفاصيل غير المهمة، و أن يصب تركيزه على أمور أكثر أهمية تساعد الشخص في اتخاذ قراراته. فالإنسان بطبيعة الحال غير ملزم باستذكار تفاصيل حياته كاملة ناهيك عن تفاصيل كتاب ما، لكن لابد من إيجاد و تطبيق بعض الحلول التي قد تساهم على الأقل في استذكار الفائدة التي تم استخلاصها بعد الانتهاء من قراءة كتاب ما و قبل تكريمه و وضعه على رف الكتب التي قد تمت مطالعتها، فائدة ذات أمد بعيد ترافقه سنيناً طوال و يستطيع أن يقيس عليها قراراته المستقبلية. لعل أهم هذه الحلول هي وضع هذا الأمر كهدف، أن يكون الإنسان واعياً و صريحاً مع نفسه بأن هذا الكتاب الذي سيبدأ بمطالعته ما هو إلا صديق على هيئة ورق، أتى به القدر إليه ليلقيه درساً بطريقة أو بأخرى، و فكرة الاستفادة من القراءة لا تقتصر على الكتب العلمية أو كتب تطوير الذات، فالكثير من الروايات و القصص الخيالية تحمل في جعبتها أسراراً و دروساً قد لا تفارق الإنسان ما بقي حياً، و هذا هو المقصود بالفائدة ذات الأمد البعيد. وعي الإنسان بكونه يقصد الاستفادة الحقيقة مما يقرأ سيجعله تلقائياً يصبو نحو قراءة كتاب في مجال معين يتناسب مع المرحلة التي يمر بها، عمرياً و فكرياً و نفسياً، و هو العامل الآخر الذي يزيد من نسبة تحقيق هدف الاستفادة من هذه القراءة. اختيار الكتاب المناسب للمرحلة الحالية هو أمر شخصي. فعلى سبيل المثال، من القراء من يحبذ مطالعة كتاب نفسي بحت يتضمن خطوات عملية تساعد في تحسين الصحة النفسية و الحالة الذهنية في حالة مروره بمرحلة نفسية قاسية، و منهم من يحبذ قراءة رواية فكاهية حين مروره بظروف صعبة. فالأمر عائد بشكل عام للذائقة الشخصية للقارئ، كونه اختار بكل ثقة أن يكون كتاب معين هو رفيقه في الأيام القادمة، فهذا خيار مبني على وعي مسبق و خيار أقرب لتحقيق هدف الاستفادة القصوى من هذه المطالعة. على صعيد آخر، العديد من التجهيزات النفسية لا تقل أهمية عن غيرها حين قراءة الكتب، فانتقاء المكان المناسب و الهادئ مهم، و انتقاء التوقيت مهم، و انتقاء المشروب أيضاً مهم لبعض القراء. فالقراءة في مكان مريح و وقت مناسب مع مشروب دافئ على هوى القارئ أمور رغم بساطتها إلا أنها من أعظم ما قد يجعل نسبة الاستفادة مما يتواجد في طيات هذا الكتاب تتعالى و تتضاعف. لن يستفيد القارى مما يقرأه على عجل، و لن يستفيد مما يقرأه من غير تركيز، الأمر لا يستحق التضحية بكلمات و صفحات بذل فيها الكاتب الكثير من الوقت و الجهد و فيها الكثير مما قد يلامس القارئ لو أنه فقط أجرى بعضاَ من التدقيق على الهيئة التي سيقرأ فيها و الجو العام الذي هيأه لعملية القراءة تلك و ابتعاده كل البعد عن المشتتات. من الخطوات التي تسهم في استذكار الأحداث و المعلومات الواردة في كتاب ما و التي يود القارئ مراجعتها لاحقاً هي بلا شك تدوين بعض الملحوظات و الملخصات على جانبي صفحاته أو على أوراق جانبية أو حتى استخدام علامات بأي طريقة كانت ترمز للنقاط الهامة و المميزة، أمر بسيط كهذا يعكس اتصال فكري عميق بين القارئ و المادة التي بين يديه و يعد من أكثر الخطوات جدية في سبيل تحقيق الاكتفاء الفكري الحقيقي حال الانتهاء من قراءة الكتاب المعني. هواية القراءة كغيرها من الهوايات التي يستمتع الهاوي بمشاركتها و مناقشتها مع غيره، ففي تداول تفاصيل كتاب ما مع الغير تبادل عظيم للفائدة و فرصة لنقاشات عميقة تتخطى مضمون الكتاب، بالإضافة إلى كونها أحد الأبواب للاستماع إلى مقترحات لكتب أخرى قد يرى القارء موافقتها لما يبحث عنه لقراءته القادمة. إلى جانب ذلك، النقاش مع الذات لا يقل أهمية عن النقاش مع القراء الآخرين، يجب أن يتبنى القارء فكرة أن الكتاب الذي تتم قراءته حالياً ما هو إلا إضافة مثرية لأفكاره السابقة و دراساته الماضية، فيتعامل معه و كأنه حلقة وصل بين منظومة أفكاره التي سبقت هذا الكتاب و تلك التي ستتشكل من بعده، فالقارئ الحقيقي يدرك جيداً التأثير العالي لما يقرأ في أي مجال كان على شخصيته و حياته الواقعية كإنسان، و القراءة الصادقة ليست فقط تذكرة عبور للضوء إلى العقول، بل تلك التي تحتفظ بهذا الضوء و تمرره للآخرين.