على مائدة البلاغة!

حين أدخل الجنة بفضل الله ورحمته، سيكون من ضمن أمنياتي أن أقيم وليمة بلاغية على شرف الإمامين عبد القاهر الجرجاني وعبد الحميد الفراهي، رحمهما الله ورفع منزلتهما، وسأحرص فيها على أن نزيل سوء الفهم حول البلاغة؛ فقد بدا لي أن الفراهي لم يعط عبد القاهر ما يستحقه من النظر، رغم وضوح أثره عليه في بناء منهجه العلمي، كما أن عبد القاهر لو اطلع على ما عند الفراهي لسرّه ما كتب؛ فليست نظرية النظام سوى امتداد لنظرية النظم، وهي الصيغة الأشمل للنظر في البناء القرآني. وسأطلب من عبد القاهر أن يوضّح للفراهي موقفه، بشكل أدقّ، من اللفظة المفردة في مزية الكلام، وأنه لا يرفض التلاؤم ولا تأليف النغم، وأطلب من الفراهي أن يعرض رأيه المماثل لرأي ابن جني في أثر الكلمة الصوتي وبنائها الصرفي، وأنا على ثقة أنه لا فرق كبير بينهما في هذه المسألة فيما لو أفصح عبد القاهر عن مذهبه خارج سياق الجدل مع المعتزلة من جهة ردّ المزية إلى أجراس الحروف والألفاظ. سأطلب منهما أيضا مزيدا من التوضيح للترتيب في الكلام، وسأحاول إقناع الجرجاني أن الفراهي نجح في تحليل نص الجاحظ وكشف عن مزيّة الترتيب التي أنكرها عبد القاهر في الكلام المنثور وأبدع في الاستدراك عليه، مع ثقتي أن عبد القاهر يريد بمثاله شيئا آخر لإثبات فكرته عن النظم بين علاقات المعاني. ولن يمنعني الحياد أن أميل قليلا إلى عبد القاهر في شواهد التشبيه محتجا على الفراهي، كما أميل أخرى إلى الفراهي في معاتبة عبد القاهر حين لم يستكثر من الشعر الجاهلي على نحو ما فعل الفراهي في مفردات القرآن وجمهرة البلاغة، رغم تفهّمي لموقف عبد القاهر ولغايته من تحليل البيان الشعري في ضوء نظرية النظم. وأخيرا، وقبل أن أدعوهما إلى المائدة سأطلب من الفراهي أن يتفضّل نيابة عنّي بدعوة عبد القاهر مشترطا عليه أن يسمّيه باسمه لإزالة الجفوة، فليس من المعقول أن يقول له: تفضّل يا صاحب أسرار البلاغة أو يا صاحب دلائل الإعجاز، وهو يدعوه إلى ما لذ وطاب من الطعام. وفي الطريق إلى المائدة سأهمس في أذن الفراهي: هل ترى صاحب هذا الذوق العالي يستحق منك عبارة المكابر الألدّ؟! أما عندما نفرغ من الطعام فسأهتبل فرصة انشغال الفراهي بلحم الطير وأقول لعبد القاهر: لو قرأت ما كتب الفراهي في جمهرة البلاغة ودلائل النظام لسرّك أنّك بُعثت من جديد لترى صورتك وهي آنق وأبهى، وتعلم أن لك امتدادا من وجه آخر، ربما كان هو الوجه الذي شُغِلتَ عنه بانهماكك في تفاصيل نظرية النظم وإلحاحك على نقض المزية الصوتية للبيان، ولعلك باركت ما كتبه الفراهي ولن يضيرك أن يفهمك على غير ما تريد ما دام أنّه كتب ما تريد. وفي ختام الدعوة سأعدهما بأن نلتقي على مائدة أخرى للنظر في ثلاثة مفاهيم بينها اتفاق وافتراق هي النظم، والتناسب، والنظام، وربما طلبت منهما أن يدعوا معهما إلى مائدتي الرازي والبقاعي لحسم المسألة في الفروق وردّ كلّ نظرية إلى صاحبها، وربما أقول لهما مداعبا: قد أدركتما الآن سرّ الإعجاز ووصلتما إلى ذروة الذوق عيانا هذه المرة، فلا داعي لأن تختلفا في الطريق إليه، بعد أن تجاوزتما البيان إلى العيان، وبلغتما الذروة في المقام البياني الأسنى. وعند تشييعهما إلى بوابة القصر لن أتردد عن إعلان أن العلامة عبد الحميد الفراهي جرجانيّ بمذاق جديد، قد ظهر لي في جمهرة البلاغة ودلائل النظام موازيا لعبد القاهر في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز.