القراءة بين ضفتي الصفاء والشقاء!

إلى كلّ الذين صافحوا في الكتب جليسهم الأنيس، لكم السلام والسكينة ! القراءة مثلها مثل أي نشاط انساني ، لها عند القراء دوافع شتى. فكل له باعث أو واعز ما. والناس أخياف في ذلك كما في شأنهم كله. والقراءة ،محل النظر هنا، ليست القراءة العابرة أو الموسمية أو الجبرية ، بل القراءة النهمة ، السعار بمزاولتها لتغدو ادماناً لا إكراه فيه . وأهل هذا النوع من القراءة غالباً يأتون اليه بدافع الولع بالمعرفة ، كعمل واع مختار بإرادة حرة . وهذا الحال قديم قدم اختراع الكتاب وفي تراثنا كثير من الشواهد على هذا النوع من النهم . فالجاحظ ، سيد من سادة النثر العربي وبحّاثة عصره، نموذج للقارئ النهم، فهو من المشهورين بذلك إذ كان يلازم الوراقين ليطالع الكتب ، وهو الذي قال عنه صاحب الفهرست «إنه كان يكتري حوانيت الوراقين ويبيت فيها للنظر». هذه ومضة خاطفة ، فالتعداد لأهل هذا النهم يطول ، لنعرف أن هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم أو ملازمة لتطور صناعة الكتاب وطباعته. وإذا كان هذا الولع بالقراءة قديماً ، فإن في عصرنا أمثلة تكشف تجارب وأوجه للنهم بالقراءة. وقد انبرى كُتّاب عديدون لتدوين تجربتهم مع القراءة حيث يستعرضون الكتب التي قرأوها وآراءهم فيها. فعلى سبيل المثال تجربة الكاتب الأمريكي روبرت غوتليب مع القراءة في كتابه « القارئ النهم « الذي يذكر فيه حياته مع القراءة. فهو نشأ في أسرة ليست فقيرة، وبين أبوين متعلمين وهاويين للقراءة . واعتاد القراءة ،التي تحولت إلى نهم شديد ، في مناخ أسري مشجع وممارس. فجده علمه القراءة طفلاً وأمه كانت تصحبه للمتاحف وأبوه يشتري له الكتب ، ويقول: إن الكتب كانت لعائلته « جزءاً من النظام الطبيعي للموجودات» ، وكانت ألاسرة ، هو ووالديه ، يجلسون منخرطين في القراءة معاً. والطريف أنه كان يعد ذلك خللاً أسرياً . وبهذه التنشئة بصحبة الكتب وتنميتها حصد ثمارها أن أصبح واحداً من أشهر المحررين في الولايات المتحدة وهي مهنة راسخة متصلة بصناعة كبيرة. فتجربته تلك طبيعية، ليس فيها ما يشذ أو ما يبهر ، فنهمه بالقراءة جاء كنبت طبيعي لغرس عائلي وعناية كبيرة في بيئة مطمئنة . غير أن القراءة لا تزهر في أرض خصبة من الطمأنينة والصفاء والسعادة فحسب ، بل إنها قد تنبت في واد لا زرع فيه ، واد مقفر مجدب ، كعشبة في البرية أو زهرة في خرابة. وهذه هي قصة الكاتب الأمريكي جو كوينن مع القراءة ، والتي ذكر تفاصيل رحلته مع الكتب في كتابه الشهير « هوس القراءة « ، وهو كتاب حقيق بالقراءة لما فيه من فوائد وطرائف في استعراض تجربة غاية في الثراء مع القراءة وحالة الهوس الشديد بها، هوس يتجاوز النهم، قد يرقى تشخيصها إلى حالة مرضية حيث القراءة تصبح محور الحياة والمتصرفة في شؤون معاشه ، وهي التي جعلته يهمل شؤونه الخاصة ، وحملته على الغياب عن العمل ، فباتت القراءة هي الحياة وضابط ايقاعها. في الكتاب يستعرض كوينن جل الكتب التي قرأها وآراءه عنها. والحق ، أن ما لفت اهتمامي ليس ذلك السرد الطويل لأسماء الكتب وموقفه منها ومؤلفيها، وإنما الدافع الذي قاده إلى أن تكون القراءة هي محور حياته. لقد أعترف بوضوح في صفحات الكتاب الأولى إذ يقول : « أنا أقرأ لأنني أريد أن أكون في مكان آخر ... لقد وجدت نفسي ملقى بي ، عالقاً وسط أحد المشاريع الأسرية المهملة ، مع أبوين دون المستوى... وأنا مقتنع تمام الاقتناع بأن الفرار من الواقع هو السبب الرئيسي الذي يدفع الناس لقراءة الكتب.» فنحن هنا أمام دافع قلما يقر به الكثيرون أو على الأقل يدركون وجوده بحسبانه الدافع الذي يسوقهم إلى أن يكونوا قراء نهمين. فالقراءة لهذه الفصيلة من الناس ليست سعياً لمعرفة ولا وردا لسعادة ، هي باختصار تجنباً للتعاسة ، وملاذاً من الخيبة وبؤس الحياة العائلية . ولعل ما يفسر هذا النزوع إلى الهروب من واقع مُثقل بالخيبات، هو ما تناوله فرويد في كتابه «قلق في الحضارة» بوصفه أحد ال»مسكنات» ضد المشاق والخيبات التي لا تُحتمل، ومن بينها ما يسميه بـ» الاشباعات البديلة» التي تخفف من وطأة الشقاء. وفي هذا السياق يستشهد فرويد بالكاتب الألماني ويليهم بوش في قصته « هيلينا الورعة» حين قال ساخراً : « من لديه هموم عنده كحول!» كناية عن هروب الناس من شقائهم . وقياسا على ذلك نرى أن تجربة كوينن تدل على أن من لديه هموم لديه كتب بحسبانها الملاذ النبيل من ثقل وطأة البؤس والخيبة ، فتجربته تجسيداً لا مراء فيه للجوء إلى الكتب كمسكن ضد بؤس حياته وخيبتها. فلولا القراءة لكان مآل حاله مختلف تماما، فالقراءة منحته طوق النجاة طفلاً وسط حياة عائلية متصدعة كانت تتداعى أمام عينيه ، وهو الذي أشار اليها بأنها - أي العائلة - كانت مشروع اسري مهمل . ولا ريب أن القراءة كانت له ملاذاً آمنا وناجعا إذ وقته من التردي في هوة سحيقة من الفشل وانسداد الأفق وسوداوية حياة كئيبة ، وصيرته إلى ما أصبح عليه من كاتب ناجح واعلامي مؤثر ومؤلف مشهور. فالقراءة كانت أشبه بالملاك الحارس الذي تحوطه طفلا حتى أسلمه للنجاح المهني رجلاً. وأظن أنه استلهم تجربة طفولته المزرية تلك لكي يحترس من تكرارها رجلاً وزوجاً واباً، ولعمري أن هذا هو الرشد بعينه ، أن يتعلم المرء من مصيبته ومعاناته وأن يتجنب إعادة انتاجها مرة أخرى ليمنع خلق ضحايا جدد في متوالية من بؤس عائلي لا ينتهي. وهذا يذكرني بعبارة لطيفة عميقة في رواية «الشباب» للروائي الجنوب افريقي «كويتزي» ، وهي الرواية التي تحكي فترة شبابه ، إذ يقول : «إن الانسان لا يتعلم شيئا من السعادة ، في حين أن التعاسة تؤهل الانسان لمواجهة المستقبل إذ هي مدرسة للروح، ومن وسط أمواجها يخرج الانسان إلى الشاطئ البعيد، وقد تطهرت روحه وامتلك القوة التي تمكنه من مواجهة التحديات في عالم الفن». كلا الرجلين القارئين، غوتليب وكوينن، ناجح. ولا شك أن القراءة كانت بمثابة الجسر المأمون لنجاحهما المهني لاحقاً ، فالوجهة متماثلة ولكن الطريق كان متبايناً جداً. ولا يلزم المرء أن يكون شقياً او تعيساً ليقرأ ، فالسعادة والطمأنينة كما في حال غوتليب كانتا محفزين لتبني القراءة كطريقة حياة أنيسة ، فأهل الطمأنينة والصفاء يتبنون القراءة كفضل من فضائل العمران والتحضر، ووسيلة لتحقيق الطموح الشخصي والارتقاء الاجتماعي، ولكن أهل اليأس والتعاسة هم الأكثر حاجة إليها لتكون طوق نجاة لهم حين تجنح بهم سفينة الحياة وترتطم بأمواج عاتية او صخور على الشاطئ جاثمة. والمشترك بين الاثنين هو أن جل قراءتهم كانت في الأدب وتحديدا الرواية والقصة ، وهذا يمثل دليل على أن الأدب هو الأنجع والأجدى في انتشال الأرواح المتعبة من حزنها وشقاء عيشها، والتسرية عمن يريد أن يحلق في آفاق بعيدة من الخيال والجمال والترحال. وفي القراءة – متى ما أعمل المرء عقله - خير كثير وفضل وفير .