
لا يُنشئ المبدع نصه اعتباطاً، بلا دافع، ولا مقصد، وإن خفي عليه ذلك، وإن ادعى أنه لم يجد نفسه إلا سابحاً في غمرة النص، فللاشعور فعله، وأدواته. فما يظفر به المتلقي من معنى اعتقادي، أو أخلاقي، أو نفسي لأول وهلة هو ما يمكننا تسميته بالمقصدية الأولية، ثم تتشكل تفريعات ثانوية، وغيرها. وهي من أهم مُحركات نمو النص وتجليه، إلى جانب الانسجام، والتفاعل، والتوليد وغيرها. إحالات العنوان: فَزع البيدر المفزوع يلفتك، يربكك، يستثير فضولك، ويضعك قاضياً في موطن الحكم، مؤيداً تارة، ومستنكراً تارة أخرى، أو متوقفا مُحايداً. البيدر: المكان الذي يُجمع فيه الحصاد، والثمار، وحيث يفصل القمح من سنابله، ويغربل الثمر، هذه العملية التفاعلية وظِفت في صورة الصراع، وخلو المكان بعد امتلائه، وتحوله إلى ما يشبه الدمن والأطلال، مع فارق وقت المكوث، ونوعه، وأشياءه، وقد وظِفت هذه المفردة في الشعر الحديث، وتوسع معناها بحسب مجازية التوظيف، وخصوبة خيال المبدع، وتمكنه في الإيحاء للقرائن الدالة على المعنى المراد. والعنوان يحيلك لحزمة من التساؤلات: ماذا يعني بالبيدر؟ ولماذا فزع؟ حينما رآه ممتلئاً بعد خلوٍّ، أم حينما رآه خالياً بعد امتلاء؟ أم فزع من ذلك الجهد والعناء في فصل مكونات ما بتلك المكان، أم لحزن على فقد ما يأمل بقاءه، أو لخيبة أمله فيما تأمل، أم، وأم.. وهنا تجد نفسك وأنت تتابع هذه المجموعة في رحلة بحث عن هذه التساؤلات، وغيرها؟ وهنا يبدأ عنصر تفاعل المتلقي مع النص مع ثراء عنصر التوليد وإحالاته. وإذا كان الشعراء والفنانون عامة كالأطفال الذين لا يمكنهم كبت مشاعرهم وإخفاءها، فالسيد إبراهيم الحاجي في طليعة هؤلاء وهؤلاء، إذ لا يمكن فصل إبداعاته عن حياته، يكتب وكأنه يرسم، وهو يسير في منعرجات الحياة حتى يصل إلى وجهته بعد أن يُفَرِّغَ كل إحساسه. يهمه أن يعبر ما يجيش بداخله بعفوية الرسام المحترف، أكثر من ذلك المتلقي؛ لأنه يعتبر نفسه المتلقي الأول لإبداعه. بين حياتين هذا المنحى الإبداعي الذي يتداخل فيه طرفا الإبداع والتلقي ليصبحا شيئاً واحداً في الابتداء أبعد ما يكون عن التكلف والتصنع، وأقرب ما يكون من العفوية المنسابة والمتدفقة كالنبع؛ لأنه كما يقول في أولى قصائد هذه المجموعة، الشعر ولي الأشياء: يتَسَرَّبُ فيَّ الشِّعرُ شفيفًا كَالماءِ إلى الأعماقِ حياةً أخرى تَخْلُقُ أشجارَ خلايايَ فينمو الحُلْمُ بريئًا مُتَّسِقَ الأبعادِ فأحْقُنُه في الأيامِ بلا أسماءْ الشاعر هنا بين حياتين حياة واقعية، وحياة يحلم بها، وعادة ما تكون حياة الحلم صورة لما يفتقده الحالم في الواقع، لما يأمله، هنا في الحُلم تتخلق الأشجار بأفنان الآمال التي ربما حال بينها وبين نموها في الواقع عوائق الحياة، وعوامل يطول شرحها، لكنه ربما ألمح إليها بقوله: فأحقنه في الأيام بلا أسماء، يريده عصياً عن المعرفة، لأن الجمال إذا انكشف في كثير من الأحيان أُفسد، وخُسِر، وهذا يُلمح أن واقع الشاعر مليء بالشفافية المفرطة التي أضاعت عليه الكثير من جماليات حياته وممتلكاته، وعلاقاته. «فينمو الحلم بريئاً مُتسقاً» تلك البراءة حاضرة في كلتا الحياتين، لكنه بفتقد الاتساق في حياته الأولى مع تحديات الواقع، ووشواته، ومشتتاته، وعوائقه. إنه عالم آخر عالم؛ شفيف خفيف لا يشبه عالم الطين، ولا تناله عوائق الحياة المادية وصخورها. يقول في قصيدة: نبأ إبراهيم: رَجعتُ أُعيدُ ملامحَ روحي فما ثَمَّ طينٌ هنا أو صخور في الحياة الموازية ينمو الحُلم بريئاً، ومتسقاً، وتلك الثنائية (البراءة والاتساق) قلما تجتمع. الحلم عنده ليس طيفاً عابراً، بل رسول رحمة ولطف يمر بعد طقوس ملكوتية؛ لينهض به، ويرمم ما قد تكسر. يعني له الكثير، إنه يسكنه، ويرسم له عالماً افتراضياً إنه جنته التي تصاحبه وتعوضه انكساراته. وبعد العروج إلى ذلك الملجأ وتفريق ما يعتمل بداخله من شحنات يعود إلى واقعه، ما يلبث أن يتقطر ويتشكل من جديد حتى تشعل فتيلة كلمة عابرة، أو جملة لم يعرها صاحبها بالاً، ولكن عند شاعرنا بداية حكاية إبداع، فمهما كانت قتامة الأجواء بالخارج فصفاء النبع الإبداعي في حصانة لديه. وعند تتبع نصوص هذه المجموعة وغيرها نجد أنَّ مقصدية النص الإبداعي لدى إبراهيم الحاجي تتجه نحو حلم التعلق والمناجاة كملمح ثابت، ومتفرع، ومتكرر. ما كل شعر يعبر عن حقيقة صاحبه، وبالخصوص ذلك الشعر الذي كُتب لِيُلفتَ غيره، ويُتباهى به بين الأقران، بقطع النظر عن صدق مقصديته. وشاعرنا يبدع عن إحساس صادق، والشعر بالنسبة له متنفس، وملجأ، وصديق يشاركه حزنه وفرحه، وهمه وقلقه، وإحباطه وأمله. احتراف الرسم نحن هنا مع رسام ليس كالكثير من الرسامين الذين يكتفون بتخطيط الصورة، وتعريف المتلقي بهويتها العامة، إنه رسام محترف كالمخرج المحترف الذي يهتم بالألوان وتدرج الإضاءة والظل، ويستخدم كل ما لديه من عناصر: أ/ رسام بالألوان، إذ طالما حضر خَطُّه ورسمُه في المحافل، والمعارض، والمناسبات، بألوان تنطق إحساساً بالأمل والألم بوجع الفقد والغربة، وبسمة الحياة والأمل. هذا الرسام لم ينسَ ريشته وإطار لوحته وألوانه حينما صادق الحرف وعانقه؛ ليحلق معه في سماء إبداعه، أو يغور به في أعماق ذاته، وللألوان لغة بليغة لمن يفهمها. ولعلك لن تجد كثافة للألوان كهذه في أي مجموعة أخرى، إذا ما درسناها بالنسبة والتناسب، فقد تم إحصاء أكثر من خمسين مفردة تحتفي بالرسم وأدواته، وألوانه، هذا الرصد يتطلب دراسة خاصة لا مجال لها في هذه الأوراق الخاطفة، فهنا (ألوان الأرض ، خضراء ، القوافي الخُضر ،أحمر ، صبغتني بالاخضرار ، اصفرار الحكايا ، الألوان الشاحبة ، وميضاً اصفرَ ، البيوت بألوانها، احمرار الشجار ، تراود ألوانها ، ينجلي الاصفرار ، بياض صغارهم ، لون غروبهم، هواجس الألوان ، اخضرار المساء، لون السمر ، ألوان عمري ، ألوان الحياة ، أوجاعها البيضاء ، أحمر ، يحتشد الاصفرار، طلاء الملامح بالاخضرار ، بالاخضرار، في الاصفرار، لون السماء ، أوجاعي البيض ، الرغبة الحمراء ، خيوطه الصفراء ، الجراح البيض، للورود الحُمر ، حلم الألوان ، الأعراس البيض ، الذكريات البيض ، اخضرار بروحي ، لون الرحيل ) ب/ كما تجد للرسم والخط معجمه الحاضر في هذه المجموعة كما في: (ارسم خارطةً / أحتاجُ إزميل / فإنَّ الصور / بنقوش الأسرار / خربشات الطفولة / ما زلت ترسم / حنايا الصور / صبغت حكايانا/ ترسم الحلم / رسم الشروق / صُبِغت بالحبر / ألوان هذا الصباح / إطار موحش ) إحساس اليتمم أعمق من أن نتصوره، وليس أبلغ في توصيف هذا الإحساس وتجليته من شاعر عاش اليتم ووجعه، كالشاعر الحاجي، الذي فقد والده، وهو الوليد الذي تعجل الدنيا، ولما يزل ابن سبعة أشهر في بطن أمه. اقرأه في قصيدة حمى الظلال التي يخاطب فيها أباه: إِذَا مَرَّ طَيفٌ قَاصِدًا وَاحَةَ القُرَى وكَانَ الدُّجَى حَوْلِي دُخَانًا مِنَ الكَرَى وَكُلُّ اللَّيَالِي فَوْقَ رُوحِي تَرَاكَمَتْ وَأَلقَتْ عَلَى الأَضْلَاعِ نَبْضًا مُزَوَّرَا وَفِي مِحْجَرِ الأحْلَامِ فَارَتْ مَوَاجِعٌ وَأَضْحَتْ مَعَ الأَيَّامِ أَمْرًا مُقَدَّرَا عَرَفْتُكَ أَنَتَ الآنَ تَجْتَازُ يَا أَبِي هُنَا فِي خَيَالَاتِي مَجَازًا مُصَوَّرَا عَرَفْتُكَ طيفًا مِنْ رِيَاضِكَ جِئْتَ لِي تُرَمِّمُ فِي الآمَالِ مَا قَدْ تَكَسَّـرَا والأحلام المتكسرة يحاول ترميمها أو استبدالها في عالم موازٍ، فالموت يخطف أحلامه، لكنها ما تلبث أن تتشكل من جديد في ذلك العالم الذي له نظامه، فلا تحكمه المادة، والمكان والزمان وعوائق عالمنا الواقعي. فـَ» في تهويمة هذا القلب المنكوبْ لا حاجبَ عن هذا الموتِ ولا محجوبْ»