يوم القيامة..

البحث عن العدالة المطلقة.

يعود أصل مفهوم “يوم القيامة” إلى أعماق التاريخ الإنساني، حيث نشأ استجابة لحاجة الإنسان الفطرية لاستكشاف ما يحدث له بعد الموت، والبحث عن العدالة المطلقة. كلمة “قيامة” في اللغة العربية تشير إلى قيام الأموات من قبورهم للحساب النهائي. هذا المفهوم اللُغَوِي يحمل في طياته فكرة الانتقال من حالة السكون (الموت) إلى حالة الحركة والحياة (البعث)، مما يعكس الطبيعة التحولية لهذا اليوم العظيم. إن البحث عن العدالة والأمل في استمرار الحياة - بشكل ما - بعد الموت يشكل جزءً أساسيًا من الطبيعة الإنسانية، ويتجاوز الحدود الدينية والثقافية. كان المصريون القدماء أول من آمن بالحياة بعد الموت والبعث والخلود بشكل منهجي ومفصل. حيث كانت عقيدة البعث والخلود محورية في “الثقافة الفرعونية 3100 -332 ق.م.” وأثًَّرَت على جميع جوانب الحياة المصرية القديمة. أما “الحضارة السومرية 4500 ق.م “ التي قامت في “بلاد الرافدين “ فقد قَدَّمَت مفهومًا مختلفًا للآخرة يتميز بالطابع القاتم والمتشائم. وكان العالم السفلي – في نظرهم - مكانًا مظلمًا وكئيبًا يذهب إليه جميع الأموات بغض النظر عن أعمالهم في الحياة. يحتل مفهوم “يوم القيامة” مكانة مركزية في “العقيدة الإسلامية” ويعتبر الإيمان باليوم الآخِر أحد أركان الإيمان الستة. للدين الإسلامي الحنيف، حيث ذُكِرَ هذا اليوم المهيب في “القرآن الكريم” بأسماء متعددة مثل “يوم القيامة” و”اليوم الآخر” و”يوم الحساب” و”يوم الدين” و”يوم الفصل” و”يوم التغابن”. و”الساعة” وكل اسم يُسَلِّط الضوءَ على بُعد معين من أبعاد هذا اليوم العظيم. وفي “الدين المسيحي” يُعرف “يوم القيامة” بـ “يوم الدينونة” وهو اليوم الذي سيأتي فيه المسيح ثانية ليدين الأحياء والأموات. هذا المجيء الثاني سيكون مصحوبًا بأحداث عظيمة تشمل قيامة جميع الأموات والحكم النهائي على جميع البشر بناءً على إيمانهم وأعمالهم. المؤمنون سيدخلون الحياة الأبدية مع الله، بينما المجرمون سيواجهون العقاب السرمدي. أما في “التراث اليهودي” وبخاصة في سردياته الدينية، فإن مفهوم “يوم القيامة’ يرتبط بمجيء المسيح المنتظر (المشيح) الذي سيقيم مملكة الله على الأرض. هذا المفهوم يختلف عن المفهوم الإسلامي والمسيحي في أنه يركز كثيرًا على الخلاص الجماعي للشعب اليهودي وإقامة العدالة في العالم، وليس فقط على الحساب الفردي بعد الموت. “الصابئة المندائيون” يمثلون واحدة من أقدم الديانات التوحيدية الباقية إلى اليوم. كانوا يعتقدون بيوم القيامة، ويؤمنون بنصب الموازين للمحاسبة، كما ورد في نصوصهم المقدسة. بينما يحتل مفهوم “يوم القيامة” مكانةً خاصةً في “الديانة الزرادشتية” التي انتشرت في إيران وأفغانستان وآسيا الوسطى قبل القرن السابع قبل الميلاد، حيث قدّمت هذه الديانة أول تصور متكامل ومفصل لهذا المفهوم في التراث الديني والفكر اللاهوتي المبكر. وهي تؤمن بيوم الحساب والدينونة النهائية. كما تتضمن عقيدتها مفاهيم الصراط والجنة والنار والحكم الإلهي. “الديانة الكونفوشيوسية” التي ظهرت في الصين قبل القرن الخامس قبل الميلاد تقدم نموذجًا مختلفًا تمامًا عن الديانات الأخرى، فهي لا تؤمن بوجود “آخرة” أو “جنة” أو “نار” ولا تتضمن مفهومًا واضحًا ليوم قيامة أو حساب نهائي. بدلًا من ذلك، تؤكد على أن الإنسان يجب أن يعيش ويتصرف بطريقة تعزز العلاقات الاجتماعية المثالية والانسجام في المجتمع. بينما يؤمن “المعتقد السيخي” بمفهوم الاتحاد مع الله كهدف نهائي للروح الإنسانية. هذا الاتحاد يمكن تحقيقه في الحياة الدنيا من خلال التأمل والعبادة الصادقة. وتؤكد “السيخية” على أن الله رحيم وعادل وأن الحساب النهائي سيكون عادلًا ومبنيًا على النِيَّات والأعمال الصادقة. قدمت الديانات الحديثة مثل “البهائية” و”الأحمدية” تفسيرات جديدة للمفاهيم التقليدية لـ “يوم القيامة” محاولةً التوفيق بين النصوص الدينية المقدسة والفهم العلمي الحديث للكون. تميل هذه التفسيرات إلى التأكيد على البُعد الروحي والأخلاقي لـ “يوم القيامة” أكثر من البُعد المادي والحرفي. من خلال هذا الطرح المختصر لمفاهيم “يوم القيامة” نجد أن هذا المفهوم يمثل واحدًا من أعمق الاهتمامات الإنسانية وأكثرها عالمية. ورغم التنوع الكبير في التفاصيل والتفسيرات، نكتشف خيوطًا مشتركةً تربط بين هذه المفاهيم المختلفة. تلتقي جميعها عند نقطة البحث عن العدالة المطلقة، والحاجة إلى معنى للوجود الإنساني، والأمل في استمرار الحياة - بشكلٍ ما - بعد الموت، وإن استيعاب هذا التنوع في المفاهيم الأخروية يساعدنا على تقدير ثراء التجربة والرؤى الإنسانية معًا، وتعزيز لغة الحوار، وتفعيل أدوات التفاهم بين الثقافات العالمية المختلفة، التي توحد البشرية في سعيها المشترك لفهم الغرض من الوجود والمصير النهائي للروح الإنسانية.