
مراكز الفكر السعودية لم تعد كيانات بحثية ثانوية بل أدوات سيادية لإعادة هندسة المعرفة في السياسة والثقافة. التحدي الكبير اليوم أمامها هو التحول من وظيفة (الوصف والتحليل) إلى وظيفة (التصميم والاستباق) أي الانتقال من إنتاج (تقارير تفسيرية) إلى (صياغة سيناريوهات) بديلة تؤثر مباشرة في صناعة القرار وفي الوعي العام. وهي بذلك تصبح جزءًا من البنية الفكرية السياسية لرؤية السعودية 2030 تمامًا كما هو الحال مع الاقتصاد والبنية الاستثمارية الاقتصادية . في هذا السياق من المفيد النظر إلى النماذج القائمة حالياً على اعتبارها تحمل نمط مراكز الفكر لدينا. هناك مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الذي شكّل منذ 1983 ركيزة للبحث التاريخي والثقافي وقدم للسعودية ذاكرة فكرية راسخة لكنه بقي في إطار تقليدي نسبيًا يركّز على الماضي أكثر من صياغة المستقبل. ومنه الى مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية كابسارك الذي أنشئ كمبادرة من الملك عبدالله رحمه الله و يمثل العقل الاستراتيجي في المملكة في مجال الطاقة والاقتصاد والبيئة وأسهم في بلورة رؤى معقدة حول التحولات العالمية إلا أن تركيزه يظل موجًها فقط للمحافل الدولية. ونأتي لمركز أسبار وهو بدوره أبرز نموذج للتنوع في القضايا الاجتماعية والاقتصادية لكنه ما زال يواجه خطر التشتت المعرفي والارتباط بتوجهات متنوعة مثل إعلام، اقتصاد، تمكين المرأة، تحولات اجتماعية، هذا التعدد يجعله أقل عمقا إذا اردنا وصفه كمركز فكر، هناك كذلك معهد الدراسات الدولية “ رصانة” نطاق تركيزه ضيق جدًا حيث التخصص العميق في الشأن الإيراني يُعَد قوة لكنه قد يحد من تنوع الموضوعات ويخلق محدودية في الفضاء المعرفي الذي يؤديه ولا توجد مؤشرات واضحة على توسعه وهذا يقلل من تواجده وتأثيره على المستوى العالمي لمركز يمتلك أساسًا قويًا لكن الحاجة قائمة لتوسيع نطاقه الأفقي والعمودي وتعزيز دوره كمنصة فكرية مؤثرة ليس فقط في السياسة ولكن ثقافيًا ومعرفيًا على نطاق أوسع. أخيرًا مركز البحوث والتواصل المعرفي أظهر قدرة على تعزيز القوة الناعمة عبر الحوار الثقافي لكن رغم أن مركز البحوث والتواصل المعرفي يتميز بدور مهم في تعزيز القوة الناعمة والانفتاح الثقافي إلا أن إنتاجه البحثي ما زال محدودًا كما أن انتشاره المعرفي يظل موجّهًا أكثر نحو الفعاليات والبرامج يضاف إلى ذلك أن تنوع اهتماماته بين العلاقات الدولية والاستشراف والهوية والثقافة يجعله يفتقد إلى هوية فكرية واضحة الأمر الذي يحد من تميزه في المشهد البحثي محليًا ودوليًا. إن هذه القراءة للوضع القائم لهذه المراكز ليس تقليلاً من تواجدها بقدر ما هو استشراف للدور المتوقع منها حيث يُتوقع من مراكز Think tank إذا أرادت أن تبقى فاعلة أن تبنّي استراتيجية ذكية قائمة على (الهندسة العكسية للواقع) أي أن تبدأ من استشراف النتائج التي يمكن أن تواجهها الدولة خلال العقود المقبلة ثم تعود لتصمم المسارات والسياسات التي تضمن الوصول إلى تلك النتائج بأقل تكلفة وأكبر فاعلية. أن هذه المقاربة تختلف عن مجرد التوقع أو المحاكاة فهي تجعل المراكز جزءًا من صناعة المسار وليس فقط رصده. التجارب العالمية تظهر أن مراكز الفكر التي اعتمدت هذه الاستراتيجية مثل بعض مراكز سنغافورة وكوريا الجنوبية لم تكتفِ بالتنظير بل ساهمت في بناء سياسات طويلة المدى غيّرت مكانة دولها في الاقتصاد العالمي على سبيل المثال. وإذا ما جرى توطين هذا المنهج في السعودية فإن النتيجة ستكون مراكز لا تنتج أوراقًا بحثية فقط بل خرائط طريق مرنة تعطي صانع القرار خيارات متعددة أمام كل تحد سياسي أو ثقافي. هنا يتحول عمل (الثنك ثانك )من وظيفة تحليلية إلى أداة للابتكار الاستراتيجي قادرة على تحويل المخاطر إلى فرص وإعادة تشكيل صورة الدولة في الداخل والخارج. إذا انتقلنا إلى الإسقاط السعودي العملي يمكن رسم خارطة لأربعة أجيال من تطور مراكز الفكر. الجيل الأول هو التحليل الذي يكتفي بوصف الأحداث والظواهر. الجيل الثاني هو التفسير حيث تحاول المراكز فهم الروابط بين الظواهر وصياغة قراءات معمقة. الجيل الثالث هو الاستشراف الذي يعتمد على أدوات النمذجة والسيناريو لتوقع ما قد يحدث. أما الجيل الرابع فهو الهندسة السيادية للمعرفة وهي ليست مجرد مرحلة متقدمة في تطور مراكز الفكر بل هي وظيفتها المركزية في القرن الحادي والعشرين. المقصود هنا أن المراكز لا تكتفي بتجميع البيانات أو صياغة توصيات وإنما تعمل على إعادة تشكيل البنية المعرفية التي تتحرك داخلها السياسات والثقافات. فبدل أن تنتظر ما يفرض من مصطلحات وأولويات عالمية تقوم هذه المراكز بتوليد وهندسة إطار سيادي يحدد كيف نفكر نحن وبأي مفاهيم نقرأ التحولات وبأي أدوات نعيد صياغة علاقاتنا مع الداخل والخارج. في هذا المستوى تصبح مراكز الفكر بمثابة مختبرات لصناعة المعايير. أو حتى مفاهيم مثل القوة الناعمة والتنمية المستدامة هو من يملك سلطة إدارة المستقبل. وبالنظر إلى حجم التحولات المتسارعة فإن غياب الهندسة السيادية يعني أن صناعة القرار ستظل أسيرة لأطر معرفية صاغها غيرها. أما امتلاكها فيعني الانتقال من موقع المتلقي إلى موقع المصدِّر للأفكار والمعايير. السعودية اليوم قادرة على تحويل مراكزها إلى أذرع للهندسة السيادية ليس فقط في السياسة الداخلية أو الاقتصاد بل أيضًا في الثقافة والهوية والعلوم الناشئة. وهنا تكمن قيمة الاستشراف في أن تُبنى معرفة وطنية تُفرض عالميًا كمرجع لا مجرد معرفة تُستهلك محليًا. ضمن هذا الإطار يمكن تخيل مسارات تطور المراكز السعودية القائمة. فمركز الملك فيصل قادر أن ينتقل من أرشفة الماضي إلى هندسة هوية معرفية جديدة تربط التراث بالحداثة وتقدَّم كنموذج عالمي. كابسارك يمكن أن يتطور من تحليل أسواق الطاقة إلى ابتكار عقيدة سعودية للطاقة ما بعد النفط تُصاغ كوثيقة مرجعية للعالم. مركز أسبار بإمكانه أن يتحول من التعدد في القضايا إلى بناء منصة استشراف اجتماعي قادرة على قراءة التحولات الديموغرافية والرقمية. معهد الدراسات الدولية رصانة يمكن أن يتجاوز التخصص الإيراني إلى إنتاج معرفي فكري مبتكر. وأما مركز البحوث والتواصل المعرفي فبإمكانه أن يتحول إلى مختبر قوة ناعمة يخاطب الأجيال الشابة عبر منتجات معرفية رقمية وثقافية تفاعلية. أما على مستوى السيناريوهات المستقبلية المفصلة فإن السعودية تمتلك فرصة لإطلاق مشروعات فكرية تعادل في تأثيرها مشاريع البنية التحتية الاقتصادية. يمكن مثلًا أن تصبح الرياض مركزًا للتجارب الثقافية حيث تحتضن منصات فكرية وحوارات معرفية متفردة. وهنا يحضرني فكرة سيناريو أكثر جرأة وهو إطلاق (مبادرة المعرفة السيادية) لتكون مشروع وطني إقليمي يقوم على إنتاج المحتوى البحثي والفكري محليًا واعتماده كمرجعية. بهذا المعنى وظيفة المراكز لن تعد الدعم الفني للقرار بل المشاركة في القرار وصناعة بدائله. وهي مطالبة بأن تصبح منصات لتوليد المفاجآت الاستراتيجية. المطلوب إذن أن تتحرر هذه المراكز من عقلية (الإنتاج الكمي) وتتحول إلى مصانع معرفة سيادية تنتج بدائل لا تُختبر فقط بل تُفرض كخيارات استراتيجية ومن هنا يمكن التفكير في تأسيس (مجلس وطني) يوحد عمل المراكز تحت رؤية واحدة وإطلاق مؤشر يقيس القوة المعرفية السعودية عالميًا وتوسيع الشراكات الدولية من موقع المبادرة لا الاستقبال. النفط كان الثروة السيادية في القرن العشرين والأفكار يجب أن تكون الثروة السيادية السعودية في القرن الحادي والعشرين. وهنا يكتمل الدور بأن تتحول المراكز إلى الجبهة المعرفية الأولى التي تحرس المستقبل وتبتكره معًا.