القصيبي ومعركة التنمية.

أولى الدكتور “غازي القصيبي” رحمه الله اهتماماً لافتاً بشئون التنمية وشجونها، وألّف في مواضيعها كتابين؛ الأول بعنوان “التنمية.. الأسئلة الكُبرى” في عام 1982، وفيه عرّف التنمية بأنها: “درجةُ من التطوّر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، وهي في مُحصّلتها النهائية وسيلة وليست غاية نحو الارتفاع بمستوى الإنسان في جميع تلك النواحي”. وطرح المؤلّف أربعة أسئلة مُهمّة في قضية التنمية، وأجاب عليها بالتفصيل عبر صفحات الكتاب، من خلال تبسيط وتقريب مفهوم التنمية وتوضيح وسائلها وسُبل تحقيقها، وهذه الأسئلة هي: التنمية لماذا؟ التنمية لمن؟ التنمية ماذا؟ التنمية كيف؟ وختم كتابه بتوصية مُهمّة للجميع، من أجل إنجاز تنمية حقيقية وليست شكلية فقط، فقال: “إن الطريق إلى التنمية يمُرّ أولاً بالتعليم، وثانياً بالتعليم، وثالثاً بالتعليم.. التعليم باختصار هو الكلمة الأولى والأخيرة في ملحمة التنمية”. أما في كتابه الآخر “التنمية وجهاً لوجه”، في عام 1989، فقد أشار القصيبي إلى مقالة نشرتها مجلّة “نيوزويك” الأمريكية حول ما يدور في المملكة بأنه: “أعظم محاولة للتخلّص من أسر التخلّف، منذ بدأت اليابان محاولتها للأخذ بأسباب المدنيّة الحديثة في القرن الماضي”. وناقش الكتاب مواضيع مختلفة تتعلّق بالتنمية بصفة عامّة، والأسباب الكامنة خلف نجاحها أو فشلها، وبالتحديد التنمية في المملكة ومنطقة الخليج بالتفصيل. ولم بكتفِ الدكتور القصيبي بتأليف الكُتب عن قضية التنمية، بل ألقى العديد من المُحاضرات عنها، ولعلّ من أبرزها تلك المُحاضرة بعنوان “خواطر في التنمية”، التي ألقاها في نادي الطائف الأدبي في عام 1977، وربما كان من المناسب إلقاء الضوء باختصار على بعض ما ورد فيها لأهميّتها، وكونها في رأيي خارطة طريق للمواطن والمسئول نحو نجاح تحقيق التنمية: لقد شاع في هذه المنطقة، مع تراكم فوائض النفط المفهوم القائل بأن المال يشتري كلّ شيء، وحقيقة الأمر أن ضخامة مواردنا المالية لا تعني بصفةٍ تلقائية وسريعة انتهاء جميع مظاهر التخلّف.. إن بوسعنا أن نشتري مُعدّات المُستشفيات في أسابيع، ولكن تدريب الطبيب الواحد، مهما كانت ثروَتنا واستعجالنا يحتاج إلى سبع سنوات، كذلك بوسعنا أن نبني جامعةً خلال أشهُر، ولكن تكوين هيئة تدريس عملية تحتاج إلى سنين طويلة. إن التنمية الحقيقية تتطلّب من كلّ مواطن العمل ساعاتٍ أطول مما يعمل غيرنا، وأن نُتقن ما نعمل، إذ أن لكلّ مواطن دور يؤدّيه في عملية التنمية: فالمواطن الذي يُلقي بالمُخلّفات في الشارع مُقصّر في حقّ التنمية، والمواطن الذي يُشغل الأجهزة الحكومية بمُتطلّبات غير واقعية أو بشكاوي كيدية مُقصّر في حقّ التنمية. إن كثيراً من عائلاتنا تُربّي الأطفال على نحوٍ يجعلهم عاجزين في المستقبل عن تحمّل دورهم في التنمية؛ فسهر الطفل إلى ما بعد منتصف الليل، ونهوضه في الصباح مُرهَقاً مُتعَباً، وقضاؤه النهار في الفصل شبه نائم، والعودة إلى المنزل للنوم إلى ما بعد العصر؛ هو إهدارٌ لوقت الرّاحة في العبث، وإهدار وقت العمل في الرّاحة! وكذلك فإن هدف المُدرّس يجب أن يكون تدريب الطّالب وليس تلقينه.. فبإمكاننا أن نطلب من إنسانٍ ما أن يقرأ كلّ كُتب تعليم السباحة، ولكننا نحكم عليه بالغرق إذا لم نُدرّبه قبل إلقائه في الماء. أما موظّفو الدولة فإن مسئوليتهم أكبر نحو التنمية، فعلى كلّ موظّفٍ أن يُذكّر نفسه دائماً بأنه خادمٌ للجمهور، فالتنمية تتعثّر بازدحام الموانيء مثلاً، لكنها تتعثّر أيضاً إذا اصطدمت بعباراتٍ مثل: “مُعاملتك ضاعت”، أو “راجعنا بعد شهر”، أو “المُدير غير موجود”! إن مخانق التنمية لا تقتصر على ضَعف التجهيزات الأساسية، بل إن هناك مخانق إدارية لا تقلّ خُطورة: كتعقيد الإجراءات، وتأجيل القرارات، أو الجُبن عند اتّخاذها، ورفع كلّ صغيرة وكبيرة إلى الرؤساء، والعجز عن التفكير والابتكار. ويشير المُحاضر إلى ضرورة أن يكون لدينا إيمانٌ بالله، ثم بقيَمٍ ومُثلٍ عُليا نسعى إليها في كلّ زمان ومكان، ولكنها تُصبح أشدّ ضرورة في حالات النموّ السريع، حيث يجد المرء نفسه مبهوراً بمُغريات الحضارة المادية وبفُرص الثراء المشروع وغي المشروع. إن التنمية بدون محبّة وتراحم وتضامن، مجهود عقيم يؤدّي إلى بناء مُدنٍ يسكنها أُناسٌ لا قلوب لهُم.. كما لاقت حضارات ٌ قبلنا دبّ الصدأ إلى روحها، وأصبحت رغم ما حقّقته من إنجازات إهانة للكرامة البشرية ومقبرة لسعادة الإنسان. وختاماً، وبعد مرور خُطط التنمية المتتابعة، نحمد الله على إنجاز ما تحقّق ونسأله تعالى المزيد من التقدّم والازدهار في ربوع بلادنا الغالية.