الإلف.. بُعدٌ آخر.

للحُبِّ عِقدٌ سلكه المحبة وخرزاته الإلف والود والوئام والمودة والأنس والحنان، وللإلف أبعادٌ ألفناها، لكن هناك بُعدٌ آخر للإلف شكّله الشعراء، فلوهلة يُظن أنه أمرٌ محمود على كل حال، لكنه بطبيعته شعور كالمحبة والكره وغيرها، فربما يألف الإنسان ما يضره، كما أنه يحب ما يضره، وقد تخطئ بالإلف كما تخطئ بالحُب، وأسوأ منه أن تَـأْلَف مُصاب أخيك، وأصل الإلف في اللغة كما بيّن ابن فارس في المقاييس أن: «الهمزة واللام والفاء أصل واحد، يدل على انضمام الشيء إلى الشيء» وفي لسان العرب: «ألِفَ الشيءَ أَلْفاً وإلافاً ووِلافًا، وأَلَفانا وأَلَفَه: لَزمه، وآلَفَه إيّاه: أَلْزَمَه، وفلان قد أَلِفَ هذا الموضع، ووَلِفْتُ الشيء وأَلِفْتُ فلانًا إذا أنست به، وأَلَّفْتُ بينهم تأليفًا إذا جمعت بينهم بعد تفرق، وأَلَّفْتُ الشيء تأْلِيفاً إذا وصلْت بعضه ببعض؛ ومنه تأْلِيفُ الكتب، وألفى الشيء: وجده، وفي الحديث: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته» والمعنى في قوله تعالى: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ) أي لِـتُـؤْلَـفَ قُريش الرحلتين فتتصلا ولا تنقطعا، فاللام متصلة بالسورة التي قبلها -سورة الفيل- أَي أَهلكَ اللَّه أَصحابَ الفِيلِ لِـتُـؤْلَـفَ قريشٌ وتتصل رِحْلَتَيْها آمِنِين، وقال الزَّجَّـاج: والمعنى: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش أي: أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف. وقال ابن الأَعرابي: كان هاشمٌ يُؤَلِّفُ إلى الشام، وعبدُ شمس يُؤَلِّف إلى الحبشة، والمطلبُ إلى اليَمن، ونَوْفَل إلى فارس» وقد ألَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم حديثًا من كفّار قريش بعد غزوة حُنين، منهم: الأقرع بن حابس التميمي وعُيينة بن حِصن الفزاري، فأمر بإعطائهم من الغنائم أكثر من غيرهم؛ مداراةً وإيناسًا لهم كي يثبتوا على الإسلام، فقال ( ص ) : «إني أُعْطِي رجالاً حدِيثي عهد بكفر أَتأَلَّفُهم» وقد جعل النبي ( ص) في الزكاة سَهْمٌ للمؤلَّفة قلوبهم. وتتجلى معاني الإلف في البلاد والمنزل، والأهل، والرفقة، والمكان، وحتى الحيوان، فـ»أَوالِفُ الطير» هي التي قد أَلِفَتْ مكةَ والحرمَ، والحيوان الأليف الذي يألف صاحبه، وهذا الأحوص يألف الديار لإلفهِ أهلهَا، قال: أبغضتُ كلَّ بلادٍ كنتُ آلفُها فما أُلائمُ إلا أرضها بلدًا ويعد المنزل رمزية للإلف عظيمة، فهو أول ما يألفه الإنسان، وما يحنُّ إليه إن بَعُد عَنْه، قال أبو تمَّام: نَــقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدًا لأول منزلِ كما يرى أبو تمَّام أن البيت إن لم تألفه فهو رمس أي كالقبر: وراكد الهمّ كالزمانة والـ بيتُ إذا ما ألفتَهُ رَمْسُ وإن لم يجد الإلف فيه فهو موحش كوحشة الموت، وفي ذلك يقول الفرزدق: ولجَّ بك الهجران حتى كأنما ترى الموت في البيت الذي كنت تألفُ وكما يؤلف البيت تؤلف الخلة كقول قيس العامري «مجنون ليلى»: فكم من هوى أو خلّة قد ألفتهم زمانًا فلم يمنعهم البين مانعُ وكما يألف الإنسان بيته وصحبه، يألف أول أيامه وصباه، وقد اعتدنا نسمع البكاء على الشباب من إلفتِه، أما بكاء المشيب فهذا ما استحدثته عبقرية المتنبي إذ قال: خُلِقْتُ ألوفا لو رددتُّ إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا ويقول من إلفته الشباب: أبكي على الشباب ولِـمَّـتي مسودة ولماء وجهي رونقُ ويفخر المتنبي بإِلْـفَته حتّى للسقم: أَلَحَّ عَلَيَّ السُقمُ حَتّى أَلِفتُهُ وَمَلَّ طَبيبي جانِبي وَالعَوائِدُ ولعله أخذه من قول أبي الأسود الدؤلي: تعوَّدتُّ مس الضر حتى ألفته وأسلمني طول البلاء إلى الصبرِ أما العشّاق فقد ألفوا البكاء والحزن والوجع، فهذا توبة بن الحُمَـيِّر قد ألفت عينه البكاء من فراقه ليلى الأخيلية، فقال: أليس يضير العين أن تألف البكا ويمنع منها نومها وسرورها ويؤكد ابن الرومي حال تقلبات الدنيا في الإلف فيقول مواسيًا: ستألفُ فقدان الذي قد فقدته كإلْفكَ وجْدان الذي أنت واجدُ وفي جانب السعي للمعالي فهذا الطّرماح فيوصي بإلف السهر لطلب العلى والسعي لابتغاء الرزق، فقال: فتألَّف السُهاد في طلب العلى واستصحب السيف الحسام الـمِخْـذَما فالطيرُ لولا أنها جوَّالةٌ لم تُلفِ في أوكارِهِنَّ المطعمَا وإن كان الإلف يعني لزام الشيء واعتياده، فإنه كذلك يوحي بالأنس، إذ يفخر الصعاليك واللصوص بصحبتهم وإلفهم للذئب والسِّبَاع والغول، فهذا عبيد بن أيوب العنبري -أحد صعاليك العرب- يحكي أنسه بالذئب وغنائه معه، وإلفه الغول في وحشة الصحراء، فقال: أراني وذئب القفر خدنين بعدما تدانا كلانا يشمئز ويذعرُ إذا ما عوى جاوبت سجع عوائه بترنيم محزون يموت وينشرُ تذللته حتى دنا وألفته وأمكنني لو أنني كنت أغدرُ ثم حكى حكايته مع الغول التي تغنّى معها وأَلِفَها: ولله در الغول أي رفيقة لصاحب قفر خائف يتقترُ تغنت بلحن بعد لحن وأوقدت حوالي نيرانا تبوخ وتزهرُ أنست لها لما بدت وألفتها وحتى دنت والله بالغيب أبصرُ وختامًا فطَبع الإلِف في الإنسان مَحمودٌ، فلا يكون الإنسان مَلولًا أو مُـنـفّرًا، وقد كان عمرو بن العاص -رضي الله عنه- رجلًا ألوفًا لا يَمَل، فقال: «لا أملُّ ثوبي ما وسعني، ولا أملُّ زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا أملُّ دابتي ما حملتني، إن الملال من سيئ الأخلاق».