في مَتَاهَةِ الذَّاتِ..

«الذَّات.. ليسَتْ مِرآةً صَافِيَةً تَعْكِسُ حَقِيقَتَنَا».

ما بين الحقيقة والزيف، يجد الإنسان نفسه محاطًا بانعكاساتٍ لا تنتهي، ما يراه في أعين الآخرين، وما يشكّله وعيه من صورٍ متشابكة، وما يفرضه التاريخُ، والمجتمعُ، والتجربةُ من أقنعةٍ تتراكم فوق ملامحه. ومن هنا، تنشأ المفارقة: «كلما تعددت صور الذات، تضاءلت قدرتها على إدراك حقيقتها الأصيلة». إنَّ هذه المفارقة تتخذ شكل متاهة رمزية، يجد المرءُ نفسه ممزقًا بين وجه أصيل يسعى إلى الانبثاق، ووجوه متراكمة من الأقنعة التي تُفرض عليه... ومع تراكم هذه الوجوه، يغدو التمييز بين الحقيقة والزيف أمرًا إشكاليًا: هل نحن ما نشعر به في أعماقنا، أم ما تعكسه المرايا المتعددة المحيطة بنا؟ لقد حاول الفلاسفة منذ القدم أنْ يضيئوا شيئًا من هذا الغموض رغم اختلافهم في التصور، فـأفلاطون رسمَ في ظلال الكهف وهم الصور المحسوسة، وأضاف كيركيجارد البعد النفسي الوجودي حين وصف اليأس بأنَّه اغترابُ الذات عن ذاتها، وهايدغر يوسع الدائرة كاشفًا البعد الأنطولوجي- الاجتماعي في حديثه عن الوجود الزائف حين يذوب المرء في جماعةٍ تبتلعه. وهكذا، تتدرج رحلة الاغتراب عن الذات من وهم الصور المحسوسة، إلى صراع داخلي مع الذات، ثم إلى فقدان الفرادة في صخب الجماعة. ورغم اختلاف الأزمنة والمفاهيم فإنَّ ما يجمع هؤلاء هو انشغالهم بسؤال واحد: كيف يستعيد الإنسان حضوره الأصيل وسط هذا الركام الزائف من الصور والانعكاسات؟ إنَّ الطريق إلى الذات الأصيلة محفوف بالصراع؛ لأنَّه يتطلب مواجهة صارمة مع أقنعة الزيف التي نرتديها. ومع ذلك، فإنَّ إمكانية الخلاص تظل قائمة في لحظة نقدٍ راديكالي، أو شجاعة وجودية، تتيح للإنسان أنْ يرى نفسه خارج مراياه، ولو للحظة خاطفة... * اللوحة بريشة الكاتب