قراءة في ديوان (غيبوبة) للشاعرة دلال بندر الملكي..
غلالة من غموض وفيض من شجن وفلسفة ورؤى ذاتية ونكهة نسويّة.

فاز هذا الديوان في الدورة السابعة لجائزة الشارقة لإبداعات المرأة الخليجية في مجال الشعر العمودي لعام 2025 م ؛ ولعل ذلك من المتوقع لأنه يتميز بظواهر جماليّة ورؤيويّة أهّلته لهذا الفوز، لذا حرصت أن أقدم هذه القراءة الموجزة آملاً أن أوفق إلى التقاط بعض تلك الظواهر. بنكهة خاصة تمثلت في صياغة تجربة وجدانيّة ذاتيّة وإنسانيّة جاءت قصائد الديوان الذي حمل عنوان القصيدة الأخيرة فيه ، وهي قصيدة تظلّلها غلالة من غموض وفيض من شجن ، ومنذ مطلع القصيدة تختطُُّ الشاعرة نهجاً جماليّاً تتحوّل فيه المعاني إلى تضاريس زمانيّة ومكانية ذات بداية و نهاية تفصلهما مسافة من جيَشانٍ مكتوم ، فيه رقّة خفيّة وسرّ كامن ينبني على تضاريس مثلّثة الأضلاع متباعدة متقاربة ( الحب و التيه و القلق) فقطباها الحب الذي يفضي إلى التيه و القلق الذي يصل بينهما، هندسة شعرية مجازيّة منتظمة ، تأتي الرؤيا مُصاغة صياغة فلسفيّة تتمثّل في مثلّث آخر (الغيمة و الكأس والحيرة) عناصر يتبدّى فيها القلق و النشوة، ويستقطبها التيه فتفضي إلى العتبة الأولى (الغيبوبة) التي تحجب الشعور بالوجود و الكينونة ، وهي غيبوبة لذيذة تحتويها النشوة ، وتتلوها الصحوة. نحن أمام مفردات تتحوّل معانيها المجرّدة إلى كائنات حيّة في حراك مستمر وحمولة وجدانية زاخرة؛ فالخوف والشك كائنات حيّة متحركة تغادر دلالاتها المطلقة لتمارس دورها في إنتاج المعني و تجسيده عبر صورة مشهديّة سرديّة ؛ فالغيبوبة والسر و الأماني والأمل في حراك يتردّد بين الحياة و انعدامها وجدلية الأضّداد فيها؛ والغيبوبة إذ تودي بظاهرتها الدلالية تخفي سراً من أسرار الذات الشاعرة التي تتردّد في البوح بالسّر و لحظة الحسم ، وتحمل القاريء على أجنحة الخيال ليجوب مناحي التفسير والتأويل، ثمة تجلّيات تتقاطر على شكل إضاءات تومض ثم تنطفيء، دهشة الميلاد وصدمة البكاء على الأطلال ، وفي الختام تمنٍّ وأسف ونصف إضاءة أو بعضها، و وقوف على عتبة الدلالة وتردّد وقلق بما ينسجم مع معنى الغيبوبة التي تبدو نصف غياب ونصف حضور، إنها وقفة بباب العدم دون دخول في كهف الغياب ؛ ذلك سر لايبوح به الشعر ،ويفضي بالمتلقي ليقف على أبواب الدلالة حائرة يحدّق في قرائن المعنى دون أن يظفربمفاتيح الدلالة ، و تلك نكهة نسويّة تحمل أسرار العواطف المذخورة والأسرار المجهولة صاغتها الشاعرة في قصيدة تناظرية على بحر البسيط سلسة متدفقة . والنكهة النسويّة تتبدّى منذ اللحظة الأولى في فاتحة الديوان في قصيدة (جدة) فجدة المدينة توحي بأنثوية الدلالة فتتعامل معها الشاعرة في صورها الفنيّة بوصفها انثى فتدهشنا بتقمّص تلك الأيقونة البصيرة في تراثنا العربي زرقاء اليمامة التي تبدو أقرب إلى أن تكون قناعاً للشاعرة، فالشعر المعطّر بالخزامى يستجلب روح الزرقاء التي تغنّى بها الشعراء و في مقدمتهم أمل دنقل في ديوانه الشهير (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، وتمتد هذه السمة القناعيّة لتشمل خصائصى أنثوية أخرى مُغازلةً بحر جدة المدينة التي تحوّلت إلى ذات لثام تتغنّى طرقاتها في انطلاقها في حراك حيويٍّ يمور في مشهد تستدعيه الشاعرة متماهيةً مع هذه المدينة العريقة الجميلة ، فهي تقرنها إلى الذات الشاعرة التي تبدو أشبه بصديقة تُسرّي عنها همومها ؛ وهنا تبرز نزعة غنائية ذاتية تستذكر التجربة و تستدعيها وتحاورها، وهي قرينة الأنوثة و الجمال (تموت على ضفائرها السآمة) سائرة على نهجها في تشخيص المعاني و شحنها بالحياة والحركة ، ومن الظواهر الجمالية البارزة في هذا الديوان المزج بين الكونيّات و المعنويات و الشيئيّات في محاورات دلاليّة فيتكامل المشهد وقد رصّعته بهذه الملامح المتداخلة : تراقص أزرق الأمواج شمس وبدر الليل في الآفاق شامة تضيء العشق سرا في انتشاء وللعشاق كم سكبت مدامة فالأمواج و الشمس و البدر والليل ظواهر كونيّة والشامة و العشّاق سمات بشرية، و المدامة و النوافذ أشياء جامدة، تكاملٌ في الصورة الفنية وتواصلٌ في المعنى و تقاطعٌ في الدلالة ، وتمضي الشاعرة لتمدّ القصيدة بشريط متحرّك تتعالق فيه الظواهرالمختلفة موحيةً بالشعور فيتضافر السحر و اللحن و الناي، ثم البحر و الموج و الشطآن في بوح مُسترسل يمتح من الذكريات في عودة إلى المحبوبة (جدة) ومخزون الذكريات عنها في استجلاب حيٍّ لما يمكن أن يُعدّ عنقوداً مُقتطفاً من سيرة حافلة و بُعداً وجدانيّاً تتشابك فيه أمداء الزمان و المكان ، وهو خيط يصل بين قصائد الديوان الذي غلبت عليه غنائية ذاتية موصولة بالأنا الشاعرة في تعبير مجازيٍّ يراوح بين اليقظة و الغيبوبة في رؤية فلسفيّة تفسّر معنىً وجوديّاً يتّصل بالحياة الإنسانية و معاناتها من خلال التجربة الذاتيّة ، وهذا ماتدل عليه كثير من عناوين القصائد التي يضمّها الديوان ؛ فحقولها الدلالية تتقاطع في دوائر تتمثل في الطفولة الإنسانية و الكونيّة (الصبح) والحب و الفراق و الوداع و الغرام و السفر والغياب و الغيبوبة ، وهي تأتي في إضمامة وجدانية واحدة ،ثم الروح والموت و الوفاة في منحىً آخر في الديوان فبدت الحياة مدرسة ؛ وأول درس فيها انقشاع الغشاوة واختراق البراءة وعدم الركون إلى العواطف ؛ فالحب طيف يحجب الرؤيا ويستنبت في القلب ألواناً من الأوهام زاهية ، تجربة وجدانيّة عبّرت عنها الشاعرة بوصفها نموذجاً لوقائع الحياة برُمّتها والحب – بوابتها المشرعة- تنقشع غشاوته فتستبين الحقائق ويعود الرشد ؛ وجماليات النص تكمن في هذه القصيدة في الموازاة بين الطفولة و الحب ، حيث البراءة و الجمال ، والمفارقة تعود بنا إلى عنوان الديوان (الغيبوبة) وعودة الوعي ؛ إنها الحياة في أعمق أغوارها وأوضح مفارقاتها غيبوبة و نشوة ثم صحوة وعودة الى الرشد . في إطار الطفولة تأتي قصيدة (طفلتي ) حيث الخطاب فيها يدور حول الطفلة موجّه إلى مُخاطبٍ غامض الشخصية ، ويقف القاريء حائراً حوله متسائلاً عن علاقته بالطفلة ؛ فهل هي الذات الشاعرة والطفولة تجسيد لبراءتها و طهرها أم ثمة قصة مجهولة للقاريء حول علاقات مضمرة : ولعلي أرجح أن تكون الطفلة هي الذات الشاعرة التي تتماهى معها: ويستفسر الشك في دمعها بك القلب ينبض من بدلك؟ فثمّة حديث يجمع بين المخاطِب والمخاطَب (يحرضني السّر أن أسألك) ومن ثم انطلاقة بوحيّة و مناجاة هامسة، وتعلّق حنون (وتسكن روحي إليك) وانعطافة وجدانيّة يتجه فالخطاب فيها يمضي في اتجاه مضادٍّ (فما أجهلك) عتابٌ قاسٍ حدّ اللوم و التقريع ؛ بل وتوبيخ صريح وخطاب انكاريّ فاضح ، وحراك لغويٌّ يعتمد على تنوّع الأساليب ما بين نداء هامس واستفهام وتقرير جازم ووصفٍ مستقصٍ ،إذ تضطرب ملكة التلقّي فيحتار القاريء ويدرك أنه لم يستطع افتراع الغموض والإمساك بالمسكوت عنه ، وينتقل الخطاب ليلامس سقف الحوار ؛ ثم يستشيم أفق الآتي لينتهي إلى تحقيق رجاء مأمول وحلم منتظر: غداً يشرق الكون بعد الغياب ويفرح قلبك من أثكلك نغم حزين وترويدة شجنٍ تهز الوجدان وتستنطق الأحزان ، في قصيدة (في ذمة المولى) رثاء وتأبين ومناجاة ، وليس من المعتاد أن يكون الرثاء على هذا النحو في ثلاثيته المعروفة (الحزن والتأبين و الحكمة)، فلا يذكر اسمه و لايعرف إلا من خلال الكناية و الصفات المجازية ، منطوياً على معجم يجمع بين حقول دلالية متنوعة : الفجيعة و الوصال والمعجم الكوني ، وذكر الأمومة و الأوراد و المفردات القرآنية ، وتضطرب الخواطر و العواطف ؛ فيكون التساؤل مشروعا : كيف تحل لحظة الإسعاد بين الوفاة و موعد الدفن : ما بين إعلان الوفاة وموعد الدفن حلت لحظة الإسعاد. وللشاعرة رؤيا للقصيدة وماهيتها ودورها تطرحها في نصّها الشعري(تكفي القصائد) فهي تعترف بدور الشعر في التعبير عن الحب وتستثمر الصورة الشائعة عن الكشف و البيان في اللقطة المعتادة (إنارة الدروب) وتجترح صورة أخرى فيها جِدّة وحداثة (ميزان العدالة) وهذه الصورة التي يعتورها الشد ّو الجذب ؛ فأغلب العشّاق لا يعترفون بميزان القضاء الذي يجنح دائماً إلى عكس إرادتهم ، وهي لا تتردّد في التقرير الواثق المجرّد : تبقى احتمالات المعاني فجوة من ذا يرجّح في المجاز هوانا هذا النوع من الطرح في القصيدة يبدو مفاجئا في أسلوبه الحجاجي الذي يتوسّل بالأسئلة التي يهتزّ فيها اليقين بصحة الرؤى و المواقف ، وهي ترتد إلى تجربتها الذاتية التي تُُعَدُّ مرجع هذا الديوان في ارتباطه الوثيق بالذات الشاعرة ؛ فهي تعترف أنها تنحت في الصخر ، وكأنها تحيلنا إلى دراما الحوار بين الثنائي الأموي الشهير جرير والفرزدق ، فجرير يغرف من بحر و الفرزدق ينحت من صخر و الشاعرة تقول: مازلت أنحت من معاجم قصتي كونا يوحد بالخيال كيانا غير أنها تعترف أن الشعر لا يفي بمتطلبات الهوى بل ربما لا يتعدى نصيبه نصف المهمة أو دون ذلك. ىالديوان يتضمن ما يقارب عشرين قصيدة تؤطرها الشاعرة بتجربتها الذاتية وفلسفتها الوجودية التي تعبر عنها بالعنوان (غيبوبة) عتبة الدلالة الرئيسة ، الغياب عن الوعي والاستغراق في الغياب و استبطان الذات والاستغراق في استخلاص الرؤى ، فعناوينها تتراوح بين الصفات الإنسانية و القيم الكبرى (الحب و الوفاء و الصفاء ) و رحلة الحياة و الموت ( الوداع و السفر و الكينونة والفرح و الموت) تلك أهم ما يمكن استخلاصه من هذا الديوان الذي التزم بإيقاع القصيدة التراثية وأوزانها في خفة ورشاقة وسلاسة و عذوبة.