الرؤية النقدية للشعر لدى غازي القصيبي:

الشاعرُ فنّان، وليس مصوراً فوتوغرافياً.

لم يكن غازي القصيبي شاعراً فحسب، بل كان صاحِبَ رؤيةٍ نقديّةٍ للشعر والشعراء والنّقاد، وكتاباته النقدية تشهد بهذا، كما أن له معايير نقدية للشعر والشعراء أهمها : الذوق الذي يعتبر معياراً مهماً في النقد عند القصيبي ، فهو يقول :» إنني أقرأ ما أتذوق وأهمل مالا أتذوق مدركاً أن العملية تتعلَّق بذوق يختلف من شخص إلى آخر»، وبالتالي فهو يرى أنّ « تذوق الشعر عملية عفوية شخصية»، فالتذوق عنده مسألة نسبية تختلف من شخص لآخر، ويبدو أن السبب الرئيسي الذي جعله ينظر إلى الذوق بهذه الرؤية الذاتية هو رؤيته للشعر بأنهُ « تعبير عمَّا في الذات ، وبأنّ الاستمتاع بقراءة الشعر هو الهدف الأساسي بالنسبة له»، وبهذا يمكن اعتبار القصيبي من أصحاب (النقد الذاتي/ الانطباعي ) «الذين يقدمون الرؤية والانطباع على المعايير الموضوعية وهؤلاء يميلون بالنقد الأدبي جهة الفن أكثر من جهة العلم»، وفي كتابه :» قصائد أعجبتني»، تخيَّرَ القصائدَ بناءً على الذوق الخالص، والإعجاب بشعرائها، لذا لا ينفي القصيبي حبّه و تأثره بالمتنبي، وأحمد شوقي، وإبراهيم ناجي، ونزار قباني، وهم شعراء يركنون إلى الذوق أيضاً. وغازي القصيبي مثله مثل كثيرٍ من الشعراء يملك وعياً بقيمة الصورة الشعرية، والخيال والإحساس ونجد ذلك من خلال قصائده التي تحمل الكثير من الصور الفنية المختلفة، ومن اختياراته النقدية للقصائد في عددٍ من مؤلفاته، فنجده يعرّف الشعرَ لحبيبته من خلال الصورة، حيثُ يُؤَطِّرُهُ بِصورةٍ فنية جميلة، فيقول في التعريف: « سوف أعرض عليكِ تعريفي المتواضع جداً، للشعر: الشعر قفز لحظة من الحياة في نغم وهو تعريف سهل قصير منظوم. إذا شعرتِ عندما تقرأين شعراً أنه يعبر عن لحظة في حياتك أنتِ، ويُعبّر عنها بطريقة موسيقيّة، فاعلمي أنك بصدد شعر»، لقد جعل القصيبي من تعريف الشعر صورة تنبّض بالحياة والحركة، موسومة – كما قال – بإيقاع موسيقي، وذلك الإيقاع مرتبط بالحركة، وهذا يعكس بوضوح وعي القصيبي النقدي بمفهوم الصورة ودورها في الشعر، كما نجده في كتاب (قصائد أعجبتني) يبني اختياراته الذوقية والجمالية للقصائد على إحساسِهِ المُرهَف بالصورة والتصوير الفني، حيث يقول في تعليقه على قصيدة المتنبي (واحرّ قلباه ...) والتي كانت أول اختيارٍ له في هذا الكتاب: «وهنا ينتقل المتنبي نقلةً دراميةً أخرى فيترك الجمهور وصور الأعداء الهاربين ويتوجه بالخطاب مباشرةً لسيف الدولة. أكاد أراه رأي العين وهو يقرع بهذا العتاب الجميل...» وينتقل بعد ذلك ليصور النقلة في حوار المتنبي مع سيف الدولة إلى الناس حيث يقول: « وهنا تجيء نقلة درامية جديدة، ينسى المتنبي سيف الدولة مؤقتاً، وينصرف إلى مواجهة أعدائه في الجمهور ولنتصور هذه المواجهة العنيفة، عيناً لعين ...»، ثم يعرض للقارئ أبيات المتنبي في تصوير سيف الدولة، وانتقال المتنبي لتصوير نفسه، ويعلق على الأبيات بقوله:» تتطابق الصورتان؛ صورة الأمير وصورة شاعره : الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم صحبتُ في الفلواتِ الوحشَ مُنفرداً حتـــى تعجَّـبَ مِنّي القور والأكـم هكذا يُصفّي المتنبي حسابه مع الوشاة والحسّاد، يعلن أنه أعظم منهم جميعاً فهو أشعر منهم جميعاً، وهو أشجع منهم جميعاً، ثم ينتهي المشهد». لقد كان اختيار القصيبي لهذه القصيدة وتعليقه النقدي عليها، مبنياً – ولاشك – على وعيه العميق بمفهوم الصورة والتصوير، وتمييزه بين الصورة المفردة التي يخاطب بها الشاعر فرداً بعينه - كما كانت بين المتنبي وسيف الدولة – وبين الصورة المركبة أو الدرامية التي خاطب بها الشاعر عموم خصومه، وذلك من خلال النقلة الدرامية في الصورة عند المتنبي، كما عبّر عنها القصيبي. وغازي القصيبي يعتبر أبا الطيّب المتنبّي وإبراهيم ناجي ونزار قبّاني من» الزمرة المقدّسة، التي تأثّر بها، وأعجِبَ بشعرِها، وآخرها (شكسبير) الذي يعدّه القصيبي متنبّي الانجليزيّة» والقصيبي ينتقي القصائد التي يستشهد بها في كتاباته، أو اختياراته النقدية بناءً على رؤيته للصورة التي تعطي الدلالات المختلفة للألفاظ و المعاني، ففي كتابه (بيت) يستخرج معنى تصويرياً من بيت القاضي عياض : كلانا ناظرٌ قمراً .. ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني يقول القصيبي :» بإمكانك، إذا شئت، أن تغرّب بعض الشيء، أن تفهم البيت على هذا النحو حوّل الحب كلاً منا إلى قمر، ولمّا كان القمر لا يرى نفسه بنفسه، فقد اضطررتُ إلى الاستعانة بعينها لرؤيتي واضطُرَّتْ هي إلى الاستعانة بعيني لرؤية نفسها «. هنا يتجلى معنى الصورة في فهم القصيبي للبيت حيث أن الحب حوّل كلا المحبوبين إلى صورة قمر، يتناغم كل منهما في النظر إلى الآخر، وهكذا يعتمد القصيبي في اختياراته الشعرية على الأبيات والقصائد التي تحتفي بالصورة الفنية، كما أنّ القصيبي له نظرة للصورة التي يرسمها الشاعر، ولما يصوّره في قصائده المختلفة، يقول القصيبي:» الشاعرُ فنّان، وليس مصوراً فوتوغرافياً، والمثل العربي : « أعذب الشعر – أكذبه « لا يقصد أن يتحول الشاعر إلى كذّاب أشر بقدر ما يصوّر الحقيقة، وهي أن الصورة الفنية لا يمكن أن تكون مجرد نسخة طبق الأصل للواقع، روح الشاعر ليست مرآة تعكس ما أمامها ولكنها بلّورةٌ سحرية تتلقى لوناً واحداً وتعكس ألف لون». إن وعي القصيبي بالصورة، يجعله يحلّل مفردات القصيدة وفق رؤيته النقديّة لها، وإدراكِهِ للخيال والأحاسيس النابعة منها، فمن ذلك تحليله النقدي الجميل لقصيدة (ظلام)، لإبراهيم ناجي حيث يقول القصيبي عن بيتها الأول : لا تقل لي ذاك نجم قد خبا يا فؤادي ! كل شيءٍ ذهبا « لو كنت مدرساً أدرس الطلبة مادة اسمها (تذوق الشعر) لشرحت لطلابي المقطع الأول من قصيدة ظلام على النحو التالي: يخاطب شاعرنا فؤاده قائلاً : لا تحاول تسليتي . لا تقل أنها مجرد امرأة ذهبت . الموضوع أخطر من ذلك بكثير، وأكبر من ذلك بكثير . بذهاب امرأة ذهب كل شيء. كانت المرأة نجماً ملأ السموات ووزّع نفسه على كل شهابٍ فيها . كما كان عروة بن الورد الصعلوك يقسّم جسمه في جسوم كثيرة . حقيقة الأمر أن النساء بعدها، عذاب وشقاء والأضواء بعد رحيلها، ظلام مليء بالجراح و النصال والقيود «. وقد ارتضى القصيبي مُصطلح (الانعكاس) وهو يرى أنّ «الشّعر ليس كاميرا تنقُل الواقع بحذافيره، لكنّهُ ريشة فنّان تختار من الواقع بعض ملامحه وخصائِصه»، فالإبداع عند القصيبي هو الانعكاس» لتجربة ذاتيّة تتحوّل عن طريق موهبة الشاعر إلى تجربة إنسانيّة»، ومن الجانب الإنساني يصف القصيبي الشّعر مُعبّراً عن نفسه بأنّهُ» غنائي في لحظات السّعادة ودموعي عندما يجتاحُني الشوق إلى البُكاء». إنّ كل هذه الإشارات وغيرها، تدل على أن القصيبي شاعرٌ، يملكُ وعياً عميقاً بالصورة الشعرية، كما أن معاصرته لشعراء التيار الرومانسي وتأثره بهم، ظهرت تماماً في شعره وطرحه النقدي مما انعكس على عمق الخيال الرومانسي عنده، الممتزج بالإحساس والعاطفة الجيّاشة، وقد تطوّرت نظرتُه النقديّة لتتّسع في مجال الرؤية الإنسانيّة، والرؤية عبر الدّراما الشّعرية في إنتاج غازي الأدبي في المجموعة الشعرية الكاملة وفي ديوان سُحيم. *ناقد أدبي.