
تعيش السينما السعودية مرحلة تحول جذري، حيث تتداخل التحديات التاريخية مع الفرص الجديدة التي تفتح آفاقًا واسعة للإبداع. على مدى عقود، واجهت السينما في المملكة عراقيل عديدة، من غياب الأطر التنظيمية إلى قيود الرقابة، مما أثر سلبًا على نموها وتطورها. ولكن مع بروز رؤية 2030 والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية المصاحبة لها، أصبح هناك أمل جديد في استعادة مكانة السينما السعودية على الساحة الإقليمية والدولية. في هذا المقال، سنستعرض التحديات التي واجهتها السينما السعودية في الماضي، ونستكشف الفرص المتاحة حاليًا للمبدعين، وكيف يمكن أن تساهم هذه الديناميكيات في بناء مستقبل مشرق للإبداع السينمائي في المملكة. لا يمكن الحديث عن الحراك السينمائي السعودي الجديد دون الإشارة إلى الأعمال التي تمهد لمرحلة ما بعد الفوضى، وتضع أصبعها على جراح الماضي الأليم. وفيلم «آخر سهرة في طريق ر» للمخرج محمود صباغ هو خير مثال على ذلك. فمن خلال قصة متعهد السهرات في مدينة جدة، يقدم لنا الفيلم صورة حية لواقع فني عانى طويلًا من غياب الأطر التنظيمية، وكيف يمكن أن تكون مأسسة الإبداع الفني هي الحل الوحيد لمواجهة هذه «الفوضى غير الخلاقة» والانطلاق نحو مستقبل أكثر إشراقًا. تدور أحداث الفيلم في ليلة واحدة مليئة بالأحداث والمفارقات، ويركز على متعهد سهرات يدعى «نجم البحري»، مستندًا إلى إرث والدته كوكا وما تبقى من فرقتها. ويبدو أن المبدع محمود صباغ يصرّ على توديع الماضي وجراحه الدفينة، وربما جزءًا من الحاضر القريب، في مرثية فنية مؤلمة وغنية بالتفاصيل، رغم ظهور بعض الأفراح على السطح أحيانًا. فقد ركز الفيلم على الجراح التي لم تندمل بعد، والآلام العميقة والمستمرة، والسلبيات التي تجاوزت الزمان والمكان والإنسان خلال حقبة سابقة لعقود في السعودية، ودون أن يلوح للمشاهد بأي بصيص أمل إلا في نهاية العمل، وربما لبعض أبطاله الذين صبروا ونالوا نتيجة معاناتهم السابقة. ولعلّ النهاية تبشر بقدوم رياح التغيير نحو الأفضل، أو على الأقل بحل المشاكل نسبيًا. التنوع في الأذواق تحية شكر وتقدير واجبة للسينما السعودية وقطاعها اولا وهيئة الإعلام المرئي والمسموع ثانيًا على إجازة هذا العمل المتميز، ضمن الأفلام السعودية والعربية والعالمية التي تم إجازتها بفكر واعٍ وسعة صدر للاختلاف في الآراء والتنوع في الأذواق. ومن المؤكد أن ما ظهر للمشاهد في النهاية كان دليلًا صادقًا على الوعي المتميز والتعاون المثمر والبناء المستقبلي الذي يتمتع به أطراف قطاع الصناعة السينمائية، خصوصًا في هذا العمل تحديدًا. وثالثًا صناع الفيلم وعلي رأسهم محمود صباغ، فقد أكد بروزَه ليس فقط كمبدع في الرؤية والسيناريو والإخراج، بل كصاحب فكر ومشروع سينمائي متميز، شأنه شأن العديد من الشباب السعودي الواعد. إذا راجعنا أفلامه منذ «بركة يقابل بركة»، ثم «عمرة والعرس الثاني»، وصولًا إلى «آخر سهرة في طريق ر»، سنتلمس خطاه الجريئة في الكتابة والإخراج والإنتاج، التي تعكس اعتزازًا وطموحًا شديدين. أتمنى ألا يساوره الغرور أو الثقة الزائدة، وأن يستمر في نهج متوازن بين فكره المتقد وجمهوره المتشوق لمثل هذه الأعمال القيمة. تميز فريق العمل الفني بأكمله دون استثناء، وإن كان برز كل من مروة سالم وسامي حنفي وعازف العود الكفيف رضوان الجفري وشيماء الطيب، وقد ظهروا بتميز خاص. في المقابل، بدا أداء عبدالله البراق متذبذبًا بين الصعود والهبوط في تأدية دوره، الذي ربما كان أكبر من إمكانياته وقدراته في بعض المواقف، رغم إبداعه أحيانًا في مشاهد أخرى. الأقوى والأكثر تأثيرًا لقد أمعن صناع الفيلم في تمهيد الطريق لـ»آخر سهرة» في ثلثي الفيلم الأول بشكل قد يثير بعض الملل، وربما كان ذلك مقصودًا لإنكاء الجراح والآلام. لكن الثلث الأخير من الفيلم كان الأقوى والأكثر تأثيرًا. يبدو أن الفيلم يمهد في نهايته للمخرج السليم أو المنقذ لتلك المآسي الفردية، وهو ضرورة مأسسة قطاع الترفيه عمومًا والسينما تحديدًا لأهميتها الحيوية في جودة الحياة في السعودية، بعد أن ظلت تلك المجالات طويلًا تعاني التحديات وتترنح في الظلمات، وخلف أسوار الاستراحات والمخيمات وداخل البيوت الفقيرة قبل الفاخرة. قد تبقى تلك البؤر المظلمة في كل إنسان ومكان وزمان، ولكن يُحسب لرؤية المملكة 2030 أنها تسعى للحد من تلك العوالم الخفية ومآسيها المتراكمة عبر عقود من الزمن، من خلال تنظيم أوضاعها بشكل نظامي وفي إطار مؤسسي سليم. هذا التنظيم قد لا يخفي تلك البؤر تمامًا، لكنه بالتأكيد يحد من وجودها وانتشارها، ويساهم في الحفاظ على حقوق المبدعين ودعمهم، والانطلاق بهم إلى آفاق أرحب ومستقبل أفضل. وتبقى المأسسة هي الحل لكل إبداع فني وإنساني سديد. مأسسة الإبداع الفني لذا تتجه رؤية المملكة 2030 نحو مأسسة الإبداع الفني، وهو ما يُعد حلًا جذريًا لمواجهة «الفوضى غير الخلاقة» التي سادت هذا القطاع. فالفوضى، في سياقها الفني، ليست بالضرورة نتاجًا سلبيًا، بل يمكن أن تكون محفزًا للإبداع. لكن عندما تتحول هذه الفوضى إلى فوضى «غير خلاقة»، فإنها تعيق الإنتاج وتُهدر الطاقات. هذه الفوضى غير الخلاقة تتمثل في غياب الأطر التنظيمية، ما يؤدي إلى: - ضياع الحقوق: حيث لا توجد أنظمة واضحة تحمي حقوق المبدعين، مثل حقوق الملكية الفكرية، ما يجعلهم عرضة للاستغلال. - غياب الدعم: في ظل الفوضى، يصعب على المبدعين الحصول على الدعم المادي والمعنوي، ما يعيق تطورهم واستمرارهم في إنتاج أعمال ذات قيمة. - انعدام المهنية: تتحول العملية الإبداعية إلى جهود فردية لا ترتقي إلى مستوى الصناعة، ما يؤثر على جودة المحتوى الفني وتنافسيته. هنا يأتي دور مأسسة الإبداع الفني، التي تهدف إلى تحويل المواهب الفردية إلى منظومة إنتاجية متكاملة ومستدامة. وذلك من خلال: - وضع الأطر القانونية: لضمان حماية حقوق المبدعين، وتوفير بيئة عمل عادلة ومنظمة. - توفير الدعم المؤسسي: عبر إنشاء هيئات وصناديق ومراكز فنية تدعم المواهب وتُمكنها. - تعزيز المهنية: من خلال التدريب والتأهيل وتوفير البنية التحتية اللازمة للإنتاج الفني الاحترافي. وبذلك، تتحول الفوضى إلى نظام، والجهود الفردية إلى عمل مؤسسي منظم، ما يفتح الباب أمام جيل جديد من المبدعين القادرين على المنافسة محليًا وعالميًا. مرحلة جديدة إن الإبداع السينمائي السعودي يقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، حيث تتداخل التحديات التاريخية مع فرص واعدة تتشكل في ضوء رؤية 2030. إن التحول نحو مأسسة الإبداع الفني ليس مجرد خطوة تنظيمية، بل هو ضرورة حيوية لضمان استدامة وتطور السينما في المملكة. من خلال تعزيز الأطر القانونية، وتوفير الدعم المؤسسي، وتعزيز المهنية، يمكن تحقيق بيئة خصبة للمبدعين، تتيح لهم التعبير عن رؤاهم بجرأة وابتكار. وفي ظل هذا التوجه، ينبغي على صناع السينما والمبدعين العمل معًا، مستلهمين من الماضي وتجاربهم الخاصة، لبناء مستقبل مشرق يساهم في تقديم محتوى فني يعكس الهوية الثقافية السعودية ويستقطب الجماهير محليًا وعالميًا. إن السينما ليست فقط وسيلة للتعبير الفني، بل هي منصة لإحداث التغيير الاجتماعي والثقافي، مما يجعل من الضروري دعم هذه الصناعة وتعزيز مكانتها في المجتمع. فلنعمل جميعًا على تحويل الرؤى إلى واقع ملموس، ولنساهم في كتابة فصل جديد من تاريخ السينما السعودية، يكون مليئًا بالإبداع والتنوع والتميز.