
أيهما أبلغ في الغزل.. وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُوفِ لأَنَّهَا لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّمِ أم قول المتنبي: لا السيفُ يفعلُ بي ما أنتِ فاعلةٌ ولا لقاءُ عدوَّي مثلَ لُقياكِ لو باتَ سهمٌ من الأعداءِ في كَبدي ما نالَ مِنَّيَ ما نالتْهُ عيناكِ. وردتني الرسالة أعلاه من صديقي الدكتور ربيع جان، في صيغة صورة من الفيس بوك. السؤال عزيزي نزار: لماذا، عند كلا الشاعرين، ارتبط الحب (أعظم عاطفة إنسانية) بالسيف والدم والسهم والرمح وعنف الحرب والقتل (أدنى الغرائز الحيوانية)؟ سؤال الدكتور ربيع لصديقنا الدكتور نزار صبري من العراق الذي يقيم في بريطانيا منذ خمسين سنة. ربيع يسأل نزارا، وأنا أدفع ثمن البحث والسهر والاجابة. تأبطت بعض خلايا ذاكرتي لأجيب ربيع: صباح الخير يقال ان الإنسان ابن بيئته هذا أولا وفي زمانهم لم يكن هناك أحَـدُّ (sharp) من هذه الأشياء التي تترك أثرا موجعا ظاهرا وباطنا. لنا أن نلتمس العذر لعنترة لأنه الحياة وما يحيط به كان سلبا ونهبا وغزواً وقتلا. لكن المتنبي عاش في زمن مختلف من جميع النواحي وتطورت اللغة. واختلط العرب بالأجناس الأخرى. أظن أن استعمالهم لأدوات القتال في الغزل، يدل على القوة (لا يريدون أن يظهروا ضعفاء في نظر المحيطين بهم)، لكن عندما تقرأ شعر غيرهم في الغزل من المتقدمين والمتأخرين ومنهم ابو نواس لا تجد هذه الألفاظ. أيضا من ناحية سيكولوجية أظن أن الاثنين يعانون من Inferiority complexعقدة النقص والظهور بمظهر القوة يغطي على هذا النقص. وبحثت لتكون الإجابة وافية وشافية للاثنين. قال الدكتور عبد الله التطاوي أستاذ الأدب والنقد ونائب جامعة القاهرة سابقا في محاضرة ألقاها البارحة الأولى في نادي المدينة المنورة الأدبي، إن المتنبي كان يعاني حالة نفسية، تطغى عليها الأنا المتضخمة، وهو لا يكاد يعترف بالآخر إلا على سبيل التهميش والتحقير، وهو يبدو في حالة الشك الدائم فيمن حوله؛ كونه يستشعر حالة من حالات التمزق الداخلي، ما يجعله يشعر بالاضطهاد؛ لأنه يملك شعورا بالاغتراب في المجتمع الذي يراه غير جدير بالعيش فيه. (صحيفة الاقتصادية) الاربعاء 17 أبريل 2013 يرى د. شيخ امباكي جوب، في دراسة له بعنوان: عقدة النقص عند عنترة بن شداد مقاربة تحليلية سيكولوجية على ضوء نظرية ألفرد أدلير. ولد عنترة لأم حبشية(جارية)، ولم يلحقه أبوه بنسبه إلا في وقت متأخر. عانى في بداياته من التمييز العنصري، والنظرة الدونية، التي رافقته حتى سن متقدمة، وكان عليه أن يستخدم السيف والرمح ويقتل ليثبت وجوده، وليعترف به أبوه وقبيلته. ماهي نظرية الفريد أدلير؟ ألفريد أدلير 1870) Alfred Adlerم1937-م، هو من وضع نظريه (علم النفس الفردي) التي تذهب إلى أن «الإنسان كائن شعوري يعرف أسباب سلوكه، ويشعر بنقائصه، ويحس بأهدافه وهو قادر على التخطيط») . يقلل أدلير من أهمية اللاشعور الذي جعل منه فرويد الدافع الرئيس لسلوك الفرد، كما أنه يرى أن الإنسان كائن اجتماعي تتحكم عليه وفيه بيئته وعلاقاته الاجتماعية الفردية وليس الغرائز البيولوجية وبالخصوص الجنسية، على خلاف فرويد الذي يرى الغريزة الجنسية كعامل مهم في تكوين الشخصية) ، ومحرك أساسي في اللاشعور. وقد سمى أدلير نظريته بعلم النفس الفردي لأنه يركز على فردية كل شخص بخلاف النظرية الفرويدية التي تنادي بشمولية الأهداف والدوافع البيولوجية) . (فالشعور بالنقص يعد أحد المبادئ في علم النفس الفردي) . يرى أدلير أن الإنسان عندما يولد يتعرض للشعور بالضعف والعجز فيلجأ إلى مساعدة والديه ومن يحيطون به. وهذا الشعور بالنقص يثير في الطفل قوة محركة تستنهض سلوكه وتدفعه إلى تحديد مستوى من الطموح يسعى لتحقيقه) . (فالشعور بالنقص أو الدونية هو الدافع الأقوى لصيرورة الحياة البشرية حسب النظرة الأدليرية. فهو حالة عامة لكل الناس، وليس علامة ضعف أو شذوذ ،بل على العكس من ذلك فإنه مصدر كل كفاح الإنسان) . وقد صاغ أدلير نظريته من تجربة حياته الشخصية، إذ عانى في طفولته من مرض الـكساح الذي كان عائقا بينه وبين مشاركة رفاقه في اللعب، كما عانى من مرض الالتهاب الرئوي. ولـكنه استطاع أن يعوض عن نقصه الجسمي بالجهد، وتمكن من اكتساب الثقة في نفسه وتحقيق التفوق حتى أصبح من ألمع التلاميذ. يشكل الشعور بالنقص ميزة فطريه مفيدة للفرد إذ يحفزه إلى التقدم والتفوق. ولـكن ماذا إذا لم يتمكن الطفل من التغلب على شعوره بالنقص؟ ذلك مبحث آخر يرى الدكتور منصف المرزوقي في مقال له بعنوان: المتنبي ..ذلك المسكين، أن هناك شرخا في شخصية عنترة والمتنبي، ويصف أن شخصية المتنبي كانت متورمة. أعود لسؤال ربيع لنزار -لعل بعض الشعراء يستخدمون صورة الحرب والموت للتأكيد على شدة العشق، فكأن الحب أشد من السيف وأقسى من الطعن. لكن المتنبي ليس فارسا، ولم يذكر لنا التاريخ أنه قاتل مثل عنترة، حتى أنه كاد أن يهرب عندما قابل من قتله، لولا أن ذكره ببيت الشعر الذي قاله: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم -ولعل هناك نوع من التحايل العاطفي، حيث يتحدث الشاعر عن مشاعره الجياشة وسط ميدان المعركة ليعكس التضحية والتفاني في الحب. وللبلاغة دور حيث أن السيف والرمح والدم تُستخدم كـ رموز تعبيرية، تحمل معاني مثل القوة والصدق والشجاعة. نرى أحيانًا أن بعض الشعراء، والأدباء يشبّهون عيون المحبوبة بأنها تصيب كالسهام، أو مشيتها رمح يخترق القلوب. تداخل ربيع برسالة واتس آبية كاتبا: تعريف «الرجولة» هو خوض غمار القتال بشجاعة لا تعرف الخوف ومواجهة الموت دون أن يرف جفن او تجزع نفس. يصور الشاعر «الرجل» (عنترة) محبته للأنثى منتصرا في ساحة الوغى إذ يقترب من الجائزة الكبرى: «كر وأنت حر» أما الشاعر «الرجل» (المتنبي) فيصور نفسه ضحية قوة لا قبل له بها تفوق ما يقدر عليه أشرس اعدائه. أجد تصوير عنترة، العبد الذي يروم قتالا الحرية والمحبوبة، أبلغ من تصوير المتنبي، الحر الذي يقع ضحية. كلاهما رجل. فأيهما أكثر رجولة؟ لست أتحدث عمن أكثر رجولة من الآخر، لكن في رأيي (غير المتواضع) أن الحب الملطخ بالدم، خالٍ من الأحاسيس والمشاعر، وهو بمثابة اغتصاب حتى لو كان المحب يصور ما فعله الحب والحبيب. هذا الحب (وحش) دموي مدمر. ربما أجد لهما (عنترة والمتنبي) العذر، لكنني أسمع وأشاهد أحيانا كثيرا من الشعراء الشعبيين، يستخدمون تلك المفردات عند كتابة ما تسمى قصائد، للحديث عن الشجاعة أو الغزل. لا زال السيف والرمح والخيل مسيطرة، مع أننا في زمن الصواريخ الباليستية، والطائرات التدميرية، والروبوتات ذات القدرات الخارقة. السؤال الذي يسحب علامات الاستفهام خلفه: -هل اللغة عاجزة وقاصرة عن استيعاب تلك المفردات لتوظيفها في شعرنا المعاصر؟ -أم أن هؤلاء الشعراء مسجونون في الماضي مثل الكثير من الأفكار في حياتنا اليومية؟ أترك لربيع ونزار الإجابة.