
أحد أجمل الحكم التي تداولها السكان الأصليين للأمريكتين هي قولهم بأننا لا نرث الأرض من أجدادنا بل نستعيرها من أبنائنا. حكمة يكمن فيها ملخص متكامل لكل ما قد تم تدوينه من مقالات و دراسات و كل ما قد تم تداوله في قاعات المحاضرات بخصوص مسؤوليتنا تجاه الأجيال القادمة. هذه المسؤولية لها عدة أبعاد، كالبيئية و القانونية و الدينية و السياسية و غيرها الكثير من أعمدة الحياة التي ستشكل الصورة المتكاملة للحياة التي سيحظى عليها أسلافنا و مصيرهم الذي بعد إرادة الله سبحانه و تعالى سيكون نتيجة قرارات نتخذها نحن في عصرنا هذا ثانوية كانت أم رئيسية. عدة قوانين ذكرت نصاً لفظ الأجيال القادمة، منها ما ورد في ميثاق الأمم المتحدة و الذي ينص على ما يلي: “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، و أن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، و أن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح.” اللفظ الذي ورد في هذا النص كان الإنقاذ، و هو ذو معنى صريح بأنه بمقدورنا اليوم رسم خطط واضحة و اتباع خطوات مدروسة في سبيل إنقاذ الأجيال المستقبلية. هذا النص أشار إلى إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحروب، لكن يمككنا أن نقيس على ذلك قدرتنا على إنقاذها من مخاطر أخرى و مسؤوليتنا تجاهها على أصعدة متعددة. قانونياً، قد يصعب تحديد أبعاد هذه المسؤولية، لكن فلسفياً و أخلاقياً، هناك مسؤولية لا يمكن تجاهلها تجاه الإسهام في استمرارية الحياة على المدى البعيد، لأنه قد يصعب أن نلزم أنفسنا في توفير تفاصيل رفاهية دقيقة للأجيال القادمة، لأننا بكل بساطة لا نتحدث فقط عن جيل أبنائنا و أحفادنا بل حتى عن أحفاد أحفادنا و من يليهم، فمعاني الرفاهية المتعارفة بيننا اليوم قد لا يبقى منها و لو نسبة ١٪، فالمقصود بالمسؤولية هي تلك المتوجهة نحو أساسيات الحياة التي لن يكون باستطاعة أي جيل بكل ما فيه من تغيرات التخلي عنها. لذا هل يمكننا تحديد متطلبات هذه الأجيال بدقة تامة؟ بالتأكيد لا، لكننا بلا شك على قناعة تامة بحاجتهم لحياة آمنة و كريمة تتمحور حول مبادئ شعورهم بقيمتهم الذاتية كمخلوقات مكرمة و احترامهم لمن حولهم من البشر باختلاف أصولهم و ثقافاتهم. لكن هناك شعرة رفيعة بين مسؤولية بشرية نحو الأجيال المستقبلية يود الإنسان السوي المساعدة في تحقيقها و بين إرهاق ذاته و تعكير صفو حياته في سبيل ذلك، فاهتمامنا بهذه المسؤولية و إعطائها حقها يجب ألا يكون على حساب حياتنا نحن، فنحن اليوم نمثل جيل المستقبل لأجدادنا و لأناس آخرين عملوا جاهداً في سبيل راحتنا، فإن ركز الإنسان اهتمامه على الأجيال القادمة حد الإنهاك و التعب من دون إعارة أي اهتمام لجودة حياته و نفسه في الوقت المحدد لمعيشته على هذه الأرض، فلا أجدادنا عاشوا و لا نحن نعيش و لا من بعدنا سيعيشون إن كان هذا المنهج القاسي هو المعتمد و المتوارث. التوازن أمر مطلوب و إعطاء كل ذي حق حقه أمر واجب، و كما قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء رضي الله عنهما: إن لربك عليك حقّـا، وإن لنفسك عليك حقّـا، وإن لأهلك عليك حقّـا، فأعطِ كل ذي حق حقّه. فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان. رغم أن حقيقة المسؤولية التي نحملها على عاتقنا نحو الأجيال المستقبلية قد تبدو ثقيلة و ذات أبعاد متعددة و مبهمة في كثير من الأحيان، إلا أنه يمكن تبسيطها و تحليلها إلى مسؤولية نحو بقائهم و استمرارية تواجدهم على هذه الأرض كمخلوقات أوجدها الله ذات حقوق و واجبات، و مسؤولية نحو أمانهم و حمايتهم في مختلف زوايا الحياة، و مسؤولية نحو توريث مبادئ و قواعد تتيح لهم الفرص التي ستمكنهم من تعمير هذه الأرض بالشكل الذي يتناسب مع جيلهم في تلك السنين و العقود المستقبلية. لكل منا المقدرة باختلاف مجالاتنا و ثقافاتنا و آرائنا المساهمة في إثراء هذه المسؤولية بتنوع تشعباتها بما أودعه الله فينا من طاقة ذهنية و إبداعية لا يمكن الاستنقاص منها أبداً، فقد يكون ما تراه أمراً ثانوياً يحمل في طياته تفصيلة صغيرة في ظاهرها لكنها عظيمة و ذات قيمة عالية على المدى البعيد سيشكرك عليها أسلافك. هي تلك السلوكيات الإنسانية النبيلة و البسيطة التي ستحقق غايات إيجابية لجيل بعد جيل، تماماً كما وصفها الأديب و الشاعر اللبناني جبران خليل جبران حين قال: “الإنسانية نهر من النور، يسير من أودية الأزل إلى بحر الأبد.” مفهوم الإنسانية ينص على العديد من الممارسات و الأخلاقيات ينبع غالبيتها من فطرة الإنسان، فلو أنصت كل شخص منا لفطرته حق الإنصات لأسدى للإنسانية و لنفسه و لجيله الحالي و للأجيال المستقبلية التي لن يلحق بها خدمة قد تعجز جميع النصوص القانونية و الفلسفية و الأدبية و الشعرية على مضاهتها شكلاً و مضموناً.