المدينة التي لا يبكي فيها أحد.

في الشتاء التاسع من عمري، بينما تمارس جدتي طقوسها، أتأملُ براءةَ روحي في ملامح دميتي المتهالكة؛ الشيءِ الوحيدِ الباقي من أمي، أتذكر عندما قالتْ لي: إن وراء البحر مدينةً لا يبكي فيها أحد، وللعيش فيها يجبُ أن نبكيَ هنا كثيرًا، ثم بَكَتْ. كلُّ شيءٍ حولي كان يذوب تحت وطأة الزمن، كنت أحمل دميتي بحذر؛ أخشى أن يسرقها مني الوقت كما سرق أمي. ألمح ذبابةً في الجو؛ تتراقص في الهواء، وكأنها وحدها تملك حرية الحركة وسط هذا الركود، أيقَظَت طفولتي؛ لتمارس دورها في لعبة الحياة، أطاردها، أحاول الحديث معها، أرغب فقط أن تعيرني لحظة من طيرانها، لم تقبل صداقتي؛ فقتلتها. أنتهي إلى جدتي، أشُدُّ رداءها لأوقفها عن تمتمتها؛ يكفيني أني أسمعها في كوابيسي، تظن أني جائع؛ فَـتُـحـضِّـر العشاء، بينما أسحب كرسيي الى الطاولة أصدَرَ ضجيجًا؛ يرفض به الصمت، فأُسْكته برفعه عن الأرض بضع سنتمترات. نتناول العشاء بصمتٍ مُـعتاد، فيَقطَعُ صمتَنا سؤالٌ أكثر اعتياداً، سؤالٌ أثقل من جوابه الموجع: - هل ستعود يومًا يا جَدَّة؟ - سـترى أمك في الفردوس يا ولدي؛ ولكن احذر فما زال الفردوسُ ممنوعًا عليك حتى تُكَرِّسَ حياتك له؛ فلا يشغلك اللهو عن طلبه! - متى سنذهب إلى الفردوس يا جَدَّة؟ تنهدت وضربت بالملعقة صحنها ثم قالت: سنذهب إلى الفردوس إذا توقفنا عن طرح الأسئلة. صدقتها، وأمسكت لساني ثم خَلَدُتُ الى النوم. كثيراً ما أرى في منامي أن جدتي ترجم البحر بالحجارة ثم تلقي بي فيه فأصحو من غرق كوابيسي إلى غرق يقظتي.. أرفع المخدة لأتأكد من وجود شعر أمي، أخذته من مشطها يوما ما؛ فهي لم تعد تحتاجه الآن.. أفتح دولابي لأطمئن على دميتي، يا لها من دميةٍ مسكينة لم أحاول إسعادها يومًا فأنا من أبحث لديها عن السعادة. أخرج من غرفتي، أحدق في أرجاء المنزل، وفي زواياه، لا أدري عم أبحث؟ لكنني أعلم أني سأكون سعيدًا إن وجدته، أرى جدتي تجلس على طاولة الطعام، منهكة مستسلمة، أردت تقليد جيراننا سمعتهم يومًا يلقون التحية على بعضهم، لكن في بيتنا هذا تموت التحايا قبل أن تقال. - صباح الخير يا جَدَّة لم ترفع رأسها، كانت مُتعبة، اكتفت بالإشارة الى كيسٍ بجانبها وقالت: خذ هذا واذهب الى المخبز؛ أرسلتني إلى مخبزٍ اعتاد صاحبة أن يمنحنا عددًا من الأرغفة كل صباح، لم أخرج إليه وحدي أبدًا؛ دائمًا ما تخرج معي أفكاري بعدم الرجوع، فأرجع أنا وتبقى هي عند الباب حتى الصباح التالي. بينما أمشي إلى المخبز أرى طفلين يهرولان نحوي، أجلس (القرفصاء) أغمض عينيَّ بانتظار ضربتيهما؛ ثم أدرك أنهما كانا يستبقان، فلما تعدياني بمسافة، وقفت وشَتمتُهما ببعض ما سمعتُ من شتائمِ جدتي لأمي. أُكمل طريقي إلى المخبز، دخلت فقال البائع: لا خبز حتى تبتسم، وهو يضع يديه على الطاولة كأنه يختبرني، لم يطلب ثمن الخبز بل طلب شيئاً أعمقَ، في داخلي كانت محاولةً يائسةً منه، أخذت الأرغفة وعدت إلى جدتي. في الطريق سمعتُ صوتاً مألوفا يناديني، التَفَتُّ فلم أجد سوى وجوه مزدحمة. شعرت للحظة أني سمعت صوت أمي الذي كنت أتشبث به كغريقٍ في بيت جدتي، لكن الأسواق لا تحتفظ بالأصوات، بل تبتلعها كما يبتلع البحر الحجارة التي ترميها جدتي في كوابيسي. أكملت طريقي، أرى في كل نظرةٍ وداعًا، وعند كل خطوةٍ سؤالًا، فأُمي تقول: إن الأجوبة بعيدةٌ جداً، يحرسها الظلام وتقلقها الأسئلة. اقتربت من البيت فرأيت أناسًا يحملون جدتي على أكتافهم متجهين نحو المقبرة، اعتدت الصمت في حياتي، لكن لم أكن أعلم قبل اليوم أن صمتي صاخبٌ الى هذا الحد؛ لم يبق معي الآن سوى الأرغفة، ودميتي، وبعضٍ من شعرِ أمي، وبعض معتقداتٍ لطالما كرهتها. عندما دخلت البيت بالخبز عند عتبة الباب يبدو أن الوقت كان متوقفًا، ضايقتني رائحة البخور وأوجع عينيَّ دُخَانه، أخطو إلى المطبخ بيدٍ تمسك الخبز وأخرى تهش الدُخَان عن وجهي، وضعت الخبز ثم اتجهت إلى دميتي وشعر أمي أخذتهما وخرجت إلى عتبة المنزل، كان الطريق إليها صامتاً، لكنه أكثرُ حريةً من ذي قبل. أمشي في أزقةٍ تُشبه تجاعيدَ يدي جدتي، شاحبة الجدران، مُتعبة من حمل خُطى التائهين، ألمحُ في كل بابٍ وكل نافذة لغةً لا أفهمها، أوقفتني امرأة، رأيت فيها شيئًا من أمي؛ قالت لي: حاول أن تقلد ابتسامة السحاب، فرسمت لها شيئًا يشبه الابتسامة ثم أكملتُ طريقي وخلَّفتُها ونظراتها المشفقة ورائي. أقضي أيامي كأنها وجوه العابرين بلا ملامح، وبين العابرين رجلٌ بملامحَ بغيضة، يوقِفني أحيانًا يبصقُ على وجهي ثم يكمل طريقه، لازال أمر جدتي بأن أكف عن السؤال قائماً، لم أحاول مسح أثر بصقته؛ أظنها ستختفي مع الوقت. مشيتُ مُهْمِلًا كُلَّ شيءٍ خلفي، وأهملَني كُلُّ شيءٍ؛ اقتربتُ مِن ميناء المدينة، حيث تختلط رائحة الملح بأصوات الغرباء، والوجوه المرهقة، كانت الأرض رطبة تحتي؛ مُشَبَّعةً بمياه البحر التي تخلت عنها الأمواج، تبدأ الريح ألحانها وتدق الأمواج طبولها فيعزفان نغمةً لم تُكتب بعد، نغمةَ وداعٍ لا رجعةَ بعده. أتذكر تحذير جدتي: “يا ولدي إن هذا المكان سيُعاقِبُكَ إذا حاولتَ التحرر منه؛ كن مطيعاً لكي تسلم”، اعذريني يا جدتي؛ فما فائدة السلام إن كانَ داخِل قفص.. أحتذي البطء، وتحتذيني العَجَلة، لا أملُك سوى خطواتي الهاربة وأحلامي المتمردة، أركبُ باخِرة تجارية، بطريقة غير شـرعية؛ بالطريقةِ ذاتها التي أُنجِبتُ بها؛ لعلها تلفظني إلى حياة لا تشبه تلك التي لفظني إليها رَحِمُ أمي، هذه الرحلة قد لا تقودني إلى المدينة التي لا يبكي فيها أحد، لا يهم، فحسبي أنها تأخذني بعيدًا عن مدينة لطالما بكيت فيها. *القصة الفائزة بالمركز الأول في مسابقة المهارات الثقافية التي نظمها تعليم منطقة عسير مؤخرا.