ذاكرة رجل الكهف في جسد الإنسان الحديث

يقول نيتشه: “القطيع ينبذ المفكر لأنه يمثل تهديدًا لوجوده، فالقطيع لا يفكر، بل يتبع.” وهذا صحيح، مئة في المئة. لكن ما لا يُقال كثيرًا هو أن الإنسان، رغم كل ما ارتداه من حضارة، لا يزال يسكنه رجلُ الكهف، دون علمه. تلك الذاكرة البدائية ما زالت تهمس له في الليالي المظلمة: “لن تنجو وحدك.” لذلك، ومنذ أول فجرٍ للبشر، نشأت الجماعة من حاجة، لا من وعي. كان البقاء في العدد، لا في الحقيقة. وكانت الطمأنينة في التشابه، لا في التفرّد. وهكذا تغلغلت التبعية في النفس البشرية، حتى صارت جزءًا من تركيبها النفسي والاجتماعي. واليوم، تغيّرت الأسماء، وبقي الجوهر يقود المشهد من وراء الستار: عنصرية، قومية، قبلية، تحزّب أعمى... وكلها تردّد بصوت واحد: “انتمِ كي تكون، واختلِف كي تُقصى.” فلماذا يُرفَض المفكر؟ لأنه لا ينشد اللحن الجماعي ذاته. وجوده وحده يطرح سؤالًا، والسؤال مزعجٌ لمن اعتاد الإجابة الجاهزة. المفكر لا يهاجم، لكنه يحرّك المياه الراكدة، ويُربك التناغم المصطنع. وهذا وحده كافٍ لرفضه واعتباره خطرًا. علم النفس يخبرنا أن الجماعة تدافع عن تماسكها كما يدافع الجسد عن أعضائه. والمجتمع، حين يرى المختلف، لا يراه فردًا، بل يراه تهديدًا. وفي علم الاجتماع، يُقال إن المجتمعات تطوّر آليات دفاع خفية ضد كل ما قد يهدد وحدتها. والمفكر، بفكرته الجديدة، لا يحمل سلاحًا، بل يحمل احتمالًا. والاحتمال، في منطق الجماعة، هو بداية التفكك. هكذا، كلُّ من لا يشبهنا يصبح غريبًا – وكما تعلّمنا الغابة والمدينة – يجب إعادته إلى الجماعة نفسها، أو يُقصى. ليس لأننا نكرهه، بل لأننا لا نحتمل مرآته. لأن المختلف يُذكّرنا بأننا لم نختر، بل تبِعنا. وأن الحرية التي نتمناها، نخافها حين تأتي في هيئة إنسان. ربما لا نخاف المفكر لأنه يختلف، بل لأنه يُجبرنا على مواجهة أنفسنا كما هي، دون أقنعة الجماعة. إنه لا يُزعزع القطيع فقط، بل يُحرّر الفرد من وهم الانتماء الكامل. تحليل بسيط، نعم، لكنه يلمس شيئًا عميقًا في طبيعتنا. فالسؤال الحقيقي ليس: “لماذا يُرفَض المفكر؟” بل: “لماذا لا يزال الإنسان، رغم كل هذا التقدّم، يخاف أن يكون حرًّا؟”