المثقف الأخير في بيئة العمل.

تلُفُـّـك الوحدة، وتحاصرك المُسَـلّمات، وتمتطي صهوة رمكةٍ هزيلة وحُبلى بالنسق السائد.. وتُردّد على مضض تأييدك للمُكرّر من القول، وتومئ إيجاباً لإبداء التأييد لما لاكته آلاف الألسن من قناعات؟ هل تُصبح على نصيحةٍ قيلت لك بعد أن عرفتها ووعيتها وأنت في الصف الرابع ابتدائي، وقائلها لك صباح اليوم يعتقد يقيناً أنه أهدى إليك الضالة المنشودة التي لم تخطر لك على بال؟ وهل تمسي بنهاية يوم عمل طويل على حكمة سمعتها ألف مرة قبل أن تغادر مرحلة الطفولة إلى المراهقة ويسوقها إلى مسامعك هذا المساء زميل يمعن النظر في عينيك ليتأكد من نجاحه في الفوز بدهشتك؟ وهل تبتسم لمن يحدثك بحماس وإصرار عن هراء كرة القدم، والمباراة الثأرية التي فاز فيها فريقه المفضل على فريق “الأعداء”، دون أن يدرك أن علاقتك مع كرة القدم انتهت منذ المرحلة الثانوية؟! أشعر بك أخي المثقف كما أشعر بكِ أختي المثقفة، فالسواد الأعظم من الناس يتشبثون بكل ما هو بسيط ودارج وسائد ومنقول، وأنت وحيد وسط هذا الطوفان.. ومتمسك بين هذه الأمواج المتلاطمة بقشّة اسمها (ساعات وينقضي الحصار)! لكن الحصار لا ينقضي في واقع الأمر، ويزداد الأمر سوءاً إن كنت صاحب عقل يفكر كثيراً ووجه باسم دائماً، فسماحة مُحيّاك سوف تصل بك إلى مرحلة الاضطرار بقبول ما يفرضه عليك “صوت الحكمة” الجماعي في مكان العمل، وفي البقالة، وورشة السيارات، ومع جارك في السكن، وفي مغسلة الثياب، وحتى في محطة المحروقات. من السهل على الوعي الجمعي السائد أن يتحصّن خلف أسوار التسليم بالقناعات الدارجة، وبهذا يمكن أن ينصهر ويندمج في “لوبي” جماهيري ضخم يؤمن بكل ما هو (متفق عليه) بين الآلاف وحتى الملايين، ومع تحقيق هذه القوة بالاندماج، يتحقق التمكين والقبول ببركة المطابقة، ولا يحتاج الإنسان حينها إلى التفكير التحليلي والنقدي الذي يسبب الشقاء في أغلب الأحيان، ولن يعي الكثيرون حجم الألم المرتبط بأن يضطر الإنسان المفكر للبقاء صامتا أغلب أوقات اليوم، ويرضى بارتداد الألم إلى صدره لأنه نادرا ما يجد أحدا يستطيع أن يشاركه تحليله العقلي لهذه الظاهرة أو تلك، أو أن يجد أذنا تُجيد الاستماع بتركيز إلى رأيه الصادق تجاه هذا الأمر أو ذاك. إن كنت ممن يملكون قلب إنسان على الأقل، ولديك زميل صاحب عقل نشط وآراء تبدو مختلفة في كثير من الأحيان مقارنة بما تشكّل لديك من مسلّمات ومعايير، وبينما تنعم بالحياة في منطقتك الآمنة، أرجوك تذكّر ما يلي: لا تنعت زميلك المثقف، صاحب العقل التحليلي الناقد، بأوصاف مثل “كئيب”، أو “عبوس”.. وغيرها من الأوصاف التعيسة؛ هو فقط كان مهذبا بما يكفي لكي لا يرد على موضوعك السطحي الدراج بعبارة مثل.. (شكرا لمشاركتي الموضوع لكنني غير مهتم بمثل هذه الأمور!)؛ واعلم جيداً أن الشعور بالوحدة يمزق هذا الإنسان، وأن ألف فكرة في عقله المشغول ستبقى حبيسة في هذا الرأس الذي أعياه التفكير، وأنه يرزح تحت وطأة السؤال الذي يقول (ماذا لو صارحت هؤلاء برأيي الحقيقي؟). الدعوة صادقة من خلال هذا المقال للمحافظة على المثقف الأخير في بيئة العمل، فخيبة أمل المفكرين كبيرة حتى بعد أن ظهرالذكاء الاصطناعي، والذي اتضح أنه لا يفكّر أساساً، بل وينقل ما تحفظه الخوادم الصينية والأمريكية من غث القول وسمينه؛ والفرصة سانحة اليوم لأقول لكم: “فضلاً، اقبلوا المثقفين والمفكرين في بيئة العمل كما هم.. لا كما تريدونهم أن يكونوا”.