حلم البدوي

حين ينتشر التأمل كهدوء الليل المحسوس عبر الأرض والسماء، ويرسل سكينته إلى أعماق الروح، حتى في تلك اللحظة آسى أحياناً لك أيها الإنسان، يا مخلوق الأرض الأعلى! ليس للمآسي التي تتحملها، على ما في ذلك العبء من ثقل، سواء تصاعد كالسحاب، أو ذاب وقد مسه الضوء المقدس، بقدر ما هو لتلك الروائع المنجزة طوال العصور، بالدرس الصبور والفكر الصعب؛ هناك، هناك، يجد الحزنُ وقوده. فحتى هذه اللحظة ظل ذهني مرتحلاً عبر هذا القصيد ينظر إلى الوجه الناطق للأرض والسماء بوصفه معلمه الأول، في حوار مع الإنسان أسسه العقل المتحكم، الذي نشر عبر هذه الصورة الجسدية، وعلى النحو الذي قد يظهر لعين الزمن الهارب، روحاً خالدة. أنت أيضاً، أيها الإنسان صنعت، لكي تتحاور طبيعتك مع نفسها، أشياء تسمو إلى حياة لا تنهزم؛ ومع ذلك نشعر – لا نستطيع إلا أن نشعر – أنها هي أيضاً لابد أن تفنى. يرتعش القلب إذ يخطر له أن وجودنا الأبدي لن يحتاج تلك الألبسة؛ ومع ذلك فإن الإنسان، طالما هو طفل الأرض، ربما “يبكي لكي يمتلك” ذلك الذي قد يفقد، وألا يفني نفسه، وإنما يبقى حزيناً، مكتئباً، ساهماً، لا عزاء له. تمر ببالي خاطرة أحياناً، فأقول – هل ينبغي لهيكل الأرض كله أن يعتصر بمخاضات تتعمقها، أو أن تهبط نار من بعيد تحرق كائناتها الممتعة، وتجفف المحيط العجوز، فيُترك في فراشه محروقاً وعارياً، وهل سيبقى الحضور الحي مع ذلك، منتصراً، فيتلو ذلك الهدوء، فتتنبأ اشتعالات كالصباح مطمئنة إلى النهار عائداً والحياة متجددة. لكن كل تأملات البشرية، نعم، كل الامتلاكات الصارمة للحقيقة سواء بنيت بالعقل أو بالعاطفة، التي هي العقل الأعلى في الروح العظيمة؛ أعمال الشاعر والحكيم، الحسية أو العقلية، التي صنعها بشر، ذلكما الثنائي المكافح ووريث الآمال نفسها؛ أين ستكون؟ آه، لم لا يكون للعقل عنصر يطبع عليه صورته في الطبيعة ويكون منسوجاً منها على نحو ما؟ لِمَ، وقد امتلك تلك القدرات بأن يرسل للعالم روحه، عليه أن يقيم في أضرحة بهذه الهشاشة؟ حين تساقطت شكوى كتلك ذات يوم في حضرة صديق كثير البحث والتأمل، ابتسم مجيباً أن في ذلك تقصٍ للمتاعب؛ ولكنه في تأنيبه اعترف أنه هو نفسه كانت تنتابه تساؤلات مشابهة. عندئذٍ أخبرته أنني ذات مرة في هدأة ظهيرة صيفية، بينما كنت أجلس في كهف صخري، قرب البحر، أتأمل بالصدفة حكاية الفارس الشهير الهائم التي سجلها سرفانتيس، أقلقتني تلك الأفكار فسموت إلى الأعلى بينما أنا جالس، وبعد أن أغلقت الكتاب التفتُّ بعيني إلى البحر الواسع. تأملت الشعر والحقيقة الهندسية، وحقهما في حياة أبدية، مستثنَين من كل جرح داخلي؛ وبعد برهة كانت حواسي تستسلم للهواء المالح فأخذني النوم، لأدخل في حلم. رأيت أمامي سهلاً ممتداً لا حدود له من الرمال الموحشة، كله أسود وفارغ، وحين نظرت حولي، زحف علي القلق والخوف، وإذ بجانبي، بالقرب مني، ظهر شكل أشعث يمتطي جملاً، أطل من علٍ، وبدا عربياً من القبائل البدوية: حمل رمحاً، وتحت إحدى ذراعيه حجر، وفي اليد المقابلة صدفة لها بريق أخاذ. وعند مرآه ابتهجت، لا يعتريني شك في أنه دليل حضر، دليل بمهارته التي لا تخطئ سيقودني خارج الصحراء؛ وبينما كنت أنظر وأنظر متسائلاً ماذا يمكن أن يعني الذي حمله القادم الجديد عبر القفر، أخبرني العربي أن الحجر (بلغة الحلم) كان “كتاب العناصر لإقليدس” و “هذا”، قال، “شيء ذو قيمة أكبر”؛ وحين قال ذلك مد الصدفة، بشكلها البالغ الجمال، متلألئة اللون، آمراً إياي أن أضعها قرب أذني. فعلت، فسمعت في تلك اللحظة بلسان لا أعرفه، ومع ذلك فهمته، أصواتاً فصيحة، انفجاراً تنبؤياً من التناغم؛ قصيدة، أُلقيتْ بعاطفة، وتنبأتْ بطوفان قريب. وما إن توقفت الأغنية، حتى أعلن العربي بهدوء أن كل ما أنذر به الصوت واقع، وأنه هو كان ذاهباً ليدفن ذينك الكتابين: الذي كان على صلة معرفية بالنجوم، وزوّج الروح إلى الروح في أطهر رباط من العقل، دون أن يعكر ذلك مكان أو زمان؛ والآخر الذي كان إلهاً، بل آلهة كثيرة وله صوت أكثر من كل أصوات الرياح، وله قوة تصيب الروح بالنشوة، وبلسم للقلب الإنساني عابر لكل المناخات. وبينما كان يقول ذلك، وعلى غرابة ما يبدو، لم أتعجب، مع أنني رأيت بوضوح أن أحدهما كان حجراً والآخر صدفة؛ ولم أشك للحظة أن كليهما كانا كتابين، مؤمناً إيماناً تاماً بكل ما حدث. تزايدت الآن رغبتي للالتصاق بهذا الرجل؛ ولكن عندما رجوته أن يشركني معه في مشروعه، أسرع غير عابئ بي: تبعته، وكنت على مرأى منه، فقد كان كثيراً ما ينظر إلى الخلف، متمسكاً بكنزه الثنائي – واضعاً رمحه جانباً، استمر وأنا أجاريه؛ والآن بدا لمخيلتي الفارس الذي يروي سرفانتيس حكايته؛ ولكنه لم يكن الفارس وإنما عربي من الصحراء أيضاً؛ ولم يكن أيّاً من هذين، وكان كليهما معاً. كانت ملامحه في تلك الأثناء تزداد قلقاً؛ وحين نظرت معه إلى الخلف رأت عيناي جسماً من الضوء المشع، موزعاً على نصف الصحراء الموحشة: سألته عن السبب، قال: “إنه ماء البحر يزحف علينا”؛ مسرّعاً خطوة المخلوق الصعب الذي كان يمتطي، وتاركاً إياي: ناديته بصوت عالٍ؛ ولم يأبه؛ منطلقاً أمامي، ملء بصري، ومهمته الثنائية في قبضته، مسرعاً فوق القفر الذي لا حدود له، وجحافل الماء لعالم يغرق تطارده؛ لأصحو عندئذٍ في رعب، لأرى البحر أمامي، والكتاب الذي كنت أقرأ بجانبي. في أوقات كثيرة، كنت ألتقط من عالم النوم هذا الطيف العربي، الذي رأيته هكذا، هذا الشبه كيخوتي، الذي منحتُه كياناً، فتخيلته إنساناً حياً، مقيماً في الصحراء، مجنوناً بالحب والإحساس، بينما فكره ممتد عبر عزلات لا نهاية لها؛ تخيلته متجولاً في مهمته! لم أشفق عليه؛ وإنما شعرت بأن كائناً منشغلاً بهكذا مهمة جدير بالإجلال؛ وفكرت بأنه في العرين الأعمى والمرعب لجنون كهذا كان العقل يتمدد مسترخياً. على الأرض عدد كافٍ ممن يعتنون بزوجاتهم، وبأطفالهم، وبعشقهم العذري، وكل ما يعده القلب عزيزاً؛ هناك عدد كافٍ ممن تحركهم هموم كتلك؛ سأقول نعم، وأنا أتأمل في تمام الصحو مقدم حدث بتلك الخطورة، تعلنه علامات على الأرض والسماء، بحيث أستطيع أن أشارك مجنوناً مثل ذاك قلقه الحميم، وأمضي في مهمة مشابهة. كثيراً ما يغلبني على الأقل ذهول قوي مثل ذلك، حين أمسك بيدي كتاباً، صندوقاً أرضياً هشاً من الشعر الخالد، لكشسبير أو ملتون، أولئك الكادحين العظام. * من قصيدته “البرليود” The Prelude (الكتاب الخامس) ** شاعر إنجليزي رومانسي (1850-1770)