محمد نجيب قدورة:

الأدب عجينة فكرة ومشاعر.

بإمكان الكتابة أن تجعل لنفسها مداخل عميقة لفهم الفرد والمجتمع، والهواجس التي تخترق وجودهما، وللعلو من هذا الشأن، تعددت إبداعات الكاتب محمد نجيب قدورة، وهو شاعر وأديب فلسطيني مقيم في الإمارات العربية المتحدة، وقد عمل مدرسا للغة العربية في كل من سوريا وليبيا والإمارات، وعضوا مؤسسا لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات - فرع رأس الخيمة . وهو عضو اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيّين، وعضو الرابطة العربية للثقافة. وله العديد من المقالات الثقافية، وبحكم غوصه في الشعر العربي، فقد اختير أن يكون محكما للعديد من المسابقات الشعرية، سواء المعنية بالشعر الفصيح أم الشعبي. ومن أبرز مؤلفاته: “ملحمة ناموس جلفار”، “ صقر القواسم”، “تجليات الشهيد سالم سهيل خميس”، “ إشراقة الشارقة”، “ذلك الإنسان سيف بن علي الجروان”، “عاشق الياسمين”، “عبدالملك بن كايد القاسمي سيرة أدبيه”، “ابن ماجد المعلم الأريب في إفهام اللبيب”، “ شمعة دموع الفرح” السيرة البحرية”، “جميل بثينة ذلك العاشق النبيل”، “سيرة الشيخ أحمد بن محمد بن سلطان القاسمي”، “ السيرة النباتية” وغيرها ...، ولكي يتضح لنا موقع الكتابة والإبداع في خطى الأديب محمد نجيب قدورة، فقد أجريت معه الحوار التالي: كيف كانت ميولك إلى القراءة والكتابة في مرحلة الطفولة؟ لقد عاصرت تعليم الكُتَّاب، فوعیت القراءة والكتابة مبكراً، حفظت القرآن الكريم، وتدربت على مخارج الحروف والإلقاء في التجويد، ولأن بيتنا بيت علم فذلك سهل عليّ الاطلاع على الكتب والمجلات، وذلك ما أسعد أستاذي عبد القادر حافظ (رحمه الله) في المراحل الأولى لدراستي عندما اكتشف سلامة لغتي في القراءة والتعبير أهدائي قصصاً ومعجماً، فالمعاجم لمن استوعبها تعطيه ثقافة معرفية متنوعة، وأخي الأكبر شاعر شعبي وفصيح ووالدتي حافظة أمثال وحكايات، فتشكل لدي صندوق ذاكرة ساعدني في كتابات قلّدت فيها أساليب الكتاب في الصحف والمجلات، لذا منذ طفولتي لقبت بحامل القلم، وأضيف هنا فضل عمي الفنان التشكيلي والممثل أديب قدورة الذي تبناني عندما عملت في مرسمه والذهاب بي إلى النادي العربي الفلسطيني، فتعلمت منه متعة الكلمة وتشكيل الصورة فيما بعد. فشرع جدي يباهي بي أمام ضيوفه كشاعر وحكواتي صغير. ما الكتب التي كان لها تأثير في تكوين شخصيتك الثقافية؟ منطقي أن تكون كتب الروايات لمصطفى لطفي المنفلوطي، وغسان كنفاني ونجيب محفوظ و مصطفى صادق الرافعي والمعلقات العشر و دواوين شعراء كبار كنزار قباني ومحمود درويش وأخص بالذكر بدر شاكر السياب وعمر أبوريشة إضافة إلى كتب السير الشعبية كسيرة سيف بن ذي يزن والظاهر بيبرس وكتب التفسير والحديث، وهذه الكتب ساهمت في ترويض أسلوبي ما بين الشاعرية والسرد الأدبي والتوثيقي. غادرت أسرتك فلسطين واستقرت في حلب، فكان أن عايشت الحياة الثقافية والتراثية في حلب، وضح لنا أثر هذه المعايشة في إبداعاتك؟ كان لمجلس جدي أثره في وعي ما حصل لأسرتي بعد النكبة وما قبلها، عايشت الحياة الثقافية والشعرية، وكان أن استدعيت لإلقاء شعر في المركز الثقافي بحلب، ليكون المفصل الأهم في تعرفي أدباء كبار كأمثال الروائي الشاعر “عبد السلام العجيلي” والشاعر المسرحي “خليل هنداوي” اللذين نصحاني بالتعرف على رجل الثقافة والتراث في حلب “خيرالدين الأسدي” الذي بدوره تبناني وعرفني على جمعية العاديات بحلب وشجعني على النشر مردداً لا تصعد المنبر حتى يشتد عودك، لتكون أنت قصتك. وفي جامعة حلب صادفت شباباً أطلقوا على أنفسهم (ندوة عبقر) لأجدني محاوراً ناقداً ولي آراء في الأدب والتاريخ، فكتب عني (الناقد خالد نقشبندي وأحمد دوغان) بأني أديب تميز بالجمع بين الأصالة والحداثة، ثم كان احتفاء أساتذتي بي خاصة عندما وجهني الدكتور إحسان عباس رحمه الله الزائر لحلب إلى كتابة السيرة الأدبية والرواية التوثيقية وألا أكون صورة طبق الأصل عن سواي، مستفيداً من ثقافي الموسوعية لرأيه أن لدي قدرة على كتابة الملاحم والروايات الشعرية، فكتبت (أنشودة فيحاء العرب) و (السيرة الحلبية) كأعمال تجريبية. سنة 1990، حللت الإمارات مدرساً، لكن كيف توجهت اهتمامات إلى المسألة الثقافية والتراثية في الخليج العربي؟ حلولي في الإمارات كان طاقة القدر لي،حيث التجربة الثقافية اتسعت، خلال احتكاك بالباحثين من الخليج العربي بل والوطن العربي، ومن طرائف ونوادر ما حصل معي أن وجدت كتاباً بعنوان “معجم الألفاظ العامية في دولة الإمارات العربية المتحدة” للدكتور فالح حنظل، فرأيته يحوي شذرات لغوية وتاريخية، وجهت بوصلتي في الكتابة إلى البحث في الجذور التاريخية والاجتماعية لأهل الخليج عموماً، وبالطبع تطورت الكتابات لأتحدث عن السيرة البحرية والنباتية، وتحليلات في التاريخ والجغرافيا والشعر البدوي والفصيح. فنشرت كتباً ومقالات وقصائد في الإمارات والكويت وفي السعودية أصدرت كتابي جميل بثينة ذلك العاشق النبيل ) حتى غدت المسألة الثقافية والتراثية خبز حياتي ولا تزال. أنت تكتب في أنساق متعددة من ميادين الأدب، فإلامَ تعزو ذلك؟ ليس غريباً أن تتمخض الثقافة المرافقة لموهبة الكتابة عن إبداعات متعددة متنوعة في الأدب، فالأدب عجينة فكرة ومشاعر، والأنساق الأسلوبية قوالب مطواعة، كذلك كان أجدادنا العرب، وهذا لا يشتت الإبداع عندما يمتلك الكاتب المفاتيح لأي باب يطرقه، الأديب الشامل ليس بدعة الإبداع في نمط يقوي، ولا يقيد المبدع في نمط آخر، وأعزو كل ذلك إلى المشارب الثقافية فعلاقتي باللغة العربية سحرية لأنها علمتني في البحوث الأدبية أن أكون فقيها بمعاني اللغة وتأصيل الأفكار، حتى قلت مرة إذا أردتم أن تدرسوا تاريخكم تعلموا تاريخ لغتكم وكان التاريخ والأدبي في متناول قلمي. ناهيك عن اهتمامي بالمسرح والفن التشكيلي. في هذا السياق حدثنا عن تجربة كتاباتك للسير التوثيقية، وما هي أبرز مؤلفاتك في هذا الجانب؟ ما سبق من إجابات يعتبر على سبيل التمهيد لما وفقت به في حياتي بعد اتباعي نصائح أساتذتي الكبار بأني أصلح لكتابة النفس الطويل، ولعل ما أعطاني ثقة هو مباركة الدكتورة فاطمة الصايغ التي قالت عن “ملحمة ناموس جلفار” أنها سدت فراغاً في المكتبة العربية، ولا أنسى أني فتحت باب ما يسمى السيرة الأدبية أي الكتاب الموثق بأسلوب أدبي علمي ممنهج أشير به إلى مصادر المعلومة، وأنا أعبر عن اللطائف والمعارف بأسلوبي دون التقيد بأساليب غيري، فكنت أستعرض المعلومات عارضاً ناقداً مبرهناً، فلم أقنع بما كان يقال لحكمة تعلمتها من ابن خلدون: أن أُعمِلَ المنطق العقلي من السرديات التاريخية وأن أُعمِلَ قلبي في السرديات الفكرية يعني أرى بعين قلبي .. إنها تجربة شاقة أنجزت منها شعراً (ذلك الإنسان سيف بن علي الجروان) (مقامات زايد وعيون المها ) ( فوق أوتار الخيال ). أما في النثر فأنجزت ( السيرة البحرية – السيرة النباتية -سيرة الهدهد ومالك السعيد ) أما كتابي ( ابن ماجد المعلم الأديب في إفهام اللبيب ) فهو كتاب جامع بين التاريخ والتحقيق والتربية وعلم البحر والفلك ) ومثله كتابي (عوشة بنت خليفة السويدي معجزة الشعر الشعبي). كتبت الشعر الشعبي والفصيح، فما أبرز القضايا التي أثارت اهتمامك؟ من الطريف أني نطقت الشعر الشعبي أولاً متأثراً بمجلس جدي ووالدتي وأخي الشاعر، ولما رأى أخي فيّ هذه الترنيمات الشعبية أخذ تعليمي العروض، فقلت له: ولكن هناك نغمات أكثر في الشعر الشعبي، حيث اعتقدت أن الشعر الشعبي مولود قبل الفصيح ثم اتفق العرب على انتقاء البحور التي لاحظها الخليل ابن أحمد الفراهيدي وتلميذه الأخفش بينما بحور الشعر الشعبي (ألف) على حد تعبير أبي بكر ابن قزمان نقلاً عن ابن خلدون في تاريخ الزجل العربي الشعبي، فكان أول إصداراتي شعراً شعبياً بعنوان ( شمعة دموع الفرح). أما الفصيح فقد تملكني أولاً بحكم أن الجامعة والمراكز الثقافية لم تكن تستقبل الشعر الشعبي، فنشرت قصائد في مجلة الثقافة الأسبوعية ومجلة الشراع وفلسطين الثورة، ولا يفوتني أن عودتي للشعر الشعبي كانت قوية بحكم وجودي في الخليج العربي الذي ينظر فيه إلى الشعر الشعبي النبطي نظرة تقدير ودعم واعتباره هوية عربية أصيلة، أما القضايا فهي اجتماعية وتاريخية وغزلية وحكمية تتضح في قصائدي المنشورة. كيف تنظر إلى واقع الإبداع الأدبي في ظل ما يسمى بالذكاء الاصطناعي؟ عند الكتابة تستطع الحصول على المعلومة، ببرق البصر كل ذلك تسهيل وتسريع وإراحة، ولأني أمارس التحقيق في المعلومة كنت أفشل في وضع النقاط على الحروف لأن المعلومات في كثير منها غير محققة وغير محكمة وهي من باب ما نقول إلا معاداً مكروراً لا نقد ولا تصويب. أما من ناحية الاعتماد على الذكاء الصناعي في الإبداع فهو وإن روج له كثيرون لا يغني عن الموهبة، حيث سنلتقي بابداعات مشوهة، مخاتلة فيها ما فيها من خمول الذهن وبث روح الاتكالية، ولقد أدهشني القول أن الذكاء الصناعي سيقوم مقام الإنسان والجواب سهل، فالذي زود الجهاز بمعلومات هو قاصر بحكم التطور السريع للمعلومات في عصر الانفجار المعرفي بمعنى أن للذكاء الصناعي حدوده المقيدة، أما الإبداع الإنساني فهو حر متجدد، ليس في زيادة المعلومة، بل بابتكار من صنع إنساني، وبما أننا نحن نتعامل بالعقل والمشاعر معاً فلن نكون كالذكاء الصناعي المربوط بالمنشئ العقلاني. نعم في المصنع تستطيع الاعتماد على الذكاء الآلي لكنه لن يخترع ولن يزيد قيد أنمله، فهو يشبه المخلوق الغريزي الذي يحتاج إلى ترويض مستمر حتى وإن نجح في حلقة فلن يستطيع الخروج من متاهة العجز -فيمشي الرجل الباحث عن ظله في شمس الأصيل، وقد ألفت في هذا قصة بعنوان (أذاى من حمار ) حيث شبهت الحمار بالآلة التي اعتادت هذا السلوك ولا تستطيع تجاوزه إلا بأمر قائدها نحن لسنا عبيد (افعل ولا تفعل) عندما نبدع. حدثنا عن مشروعاتك الأدبية المقبلة التي تنتظرها المكتبة العربية؟ لديّ دراسات عن الشعر الشعبي، وديوانان ينتظران رؤية النور، إضافة إلى دراسة بانورامية في إبداعات أحد الروائيين العرب وسيرة لم تكتمل بعنوان (رحلتي في أحاديث الزمان)، حيث تشكل مجموعة أعمال في عمل واحد.