شاعر وناقد يعتبر القصيدة هي الأساس ..

محمد الحرز : كلمة “النقد“سيئة السمعة عند الكثيرين ولا أعرف لماذا !

يعدّ الشاعر و الناقد محمد الحرز، من الشعراء الذين استطاعوا بناء جسرا جماليا بين ثنائية “ شاعر / ناقد” دون أن يفكر بطريقة الانتصار أو الهزيمة لأحدهما.حيث أن تجربته الشعرية و عمقها جعلته يعتبر النقد ضرورة ملحّة لنضج هذه التجربة. و بين هذا التوازن الجمالي “ نقد شعر” يغوص بنا الحرز من خلال أشعاره في تجليات متنوعة من القصيد فنجده منطلقا من التفعيلة مستقرا مبدعا في النثر. منفتحا و متجددا بذلك على مواضيع متعددة من الذاكرة و المكان و الآخر ... منشغلا في الآن ذاته بمراقبة و تحليل ما يمر به المشهد السعودي من تطورات فكرية و إبداعية في شتى المجالات . في لقاء جمعه باليمامة حاولنا أن نستجلي كل هذا الزخم الإبداعي لتجربة الشاعر و الناقد محمد الحرز. * لقد عرفت باشتغالاتك النقدية في قراءة المشهد الثقافي السعودي، ما تقييمك لهذا المشهد اليوم؟ لم تتسم اشتغالاتي بطابع نسقي محكم الحدود والاتجاهات ، أو أنها اشتغلت على ثيمات معينة سواء على المستوى الأدبي أو الاجتماعي أو الفكري، إنما كانت خاضعة بالدرجة الأولى في جانب كبير منها لسياق التحولات التي ارتبطت برؤية المملكة ٢٠٣٠ وما صاحبها من تغيرات اجتماعية وثقافية وأدبية وأقتصادية وفكرية ، لم تطل فقط ذهنية الأشخاص وإنما أيضا ذهنية المؤسسات الرسمية والأهلية على السواء. ومن الصعوبة بمكان ضمن سرعة هذه المتغيرات أو التحولات زمنيا ومكانيا، واستجابة المجتمع بجميع فئاته لمتطلباتها وتفاعله معها أن يرصد الباحث أو المراقب المشهد ويلمّ بكل المؤثرات التي طالت بنيته وعلاقاته ورؤيته لنفسه وللآخرين. لذلك انبنت اشتغالاتي على ملاحظة هذه الظاهرة أو تلك سواء في المجال الأدبي أو الاجتماعي أو الفكري وحتى السياسي ، وقد تتعمق هذه الملاحظة عندي إلى تناول شريحة اجتماعية معينة أدبيا أو فكريا أو اجتماعيا . وهذه الطريقة في التناول لا تعطيك الحق لا منهجيا ولا رؤيوية في إصدار تقييم عام للمشهد السعودي في لحظته الراهنة ، حتى لو ادّعى شخص آخر غير ذلك. التقييم الشامل في ظني يحتاج إلى مختبر متخصص في النظر إلى مثل هذه التحولات بتأنّ وعمق وهدوء ، وبعيدا عن تجاذبات الاشتغالات الفردية، خصوصا وأن تلك التحولات بدت سريعة الحركة مقارنة بالعقود التي سبقتها حينما كان المجتمع يعيش شبه انغلاق على نفسه.ربما تكون اشتغالاتي تنتمي إلى جهد المقل وذلك بدافع المحب لمجتمعه وبدافع الفهم والفضول المعرفي . * في إحدى حواراتك قلت أنك تنتصر للشاعر الناقد في آن، كيف أثرت هذه الثنائية ( شاعر/ ناقد) في كتاباتك؟ لم أفكر بطريقة الانتصار أو الهزيمة فيما يخص هذه الثنائية ، ولم أضع الشاعر قبالة الناقد في تضاد يمكن يؤدي إلى الصدام أو يؤدي إلى نفي أحدهما للآخر. كل ما في الأمر أن طريقة تفكيري في النظر إلى النصوص الإبداعية والأشياء والحياةوالظواهر الثقافية والاجتماعية تهيمن عليها فكرة أن خلف الأشياء الظاهرة ثمة عمق ينبغي اكتشافه أو البحث عنه سواء عن طريق المخيلة أو الفكر الفلسفي المجرد. ولو أنني لم أكتشف هذه الهيمنة ، وعملت على تشذيب غصونها وأوراقها والحرص على سياقتها بزلال الماء، لوجدت نفسي محروما من ظلالها ، ولرؤية نفسي مجروفا معها في السيل الكبير الذي يأخذ كل مبدع يظن أنه يكتب مخيلته فيما هو مساق إلى أفكار كبرى مجردة لا تنطق بها سوى لغة الفكر والنقد والفلسفة ، وهو ما حدث مع الكثير من المبدعين.لذلك أجد أن سؤال النقد عندي لا ينفك في عمقه عن سؤال الشعر وكأنهما الوجه وقفاه، وكأن كل طرق التفكير تفضي إلى عالم الشعر، هو المبتدى والمنتهى في نفس الوقت. هذه الطريقة في التفكير لم تكن واضحة المعالم في اندفاعة البدايات ، ولم أكن منتبها إلى مزالقها الخطيرة التي تجرف مخيلة المبدع عن نقاء الشعر وصفائه. وكانت حصيلتها أنني كتبت نصوصا تطغى عليها الأفكار المجردة . لكنني سرعان ما اكتشفت مثل هذا المزلق ، وأعتقد أنني تجاوزته مع نضج التجربة ومساءلة الحياة من خلالها. *ألا يسجن النقد وجدان الشاعر فيفرغ بذلك القصيدة من جمالياتها، خاصة عندما تكتب القصيدة بأنفاس ناقد؟ وأنا بدوري هنا أتساءل لماذا كلمة ( النقد) سيئة السمعة إلى حد أنها عند الكثيرين في الخطاب العربي الثقافي الأدبي من أهم مساوئها تقوم بوظيفة الحجب عن إظهار شعرية النص؟ لم أجد إجابة سوى أن دلالات الكلمة وحمولة معانيها تضع النقد في تنافر تام مع الشعر بسبب تلقي الكلمة في النقد العربي الموروث من جهة وارتباط الكلمة بجهود نقاد باحثين وأكاديميين منذ عصر النهضة،حيث بعضهم حاول كتابة الشعر ولم يفلح، من جهة أخرى. لكن الحقيقة هي في مكان آخر، فالنقد ضرورة للتجربة الشعرية وخير من يقوم بها هو الشاعر نفسه وهناك نماذج كثيرة من شعراء نقاد حول العالم أجمع استطاعوا ليس فقط أن يثروا نصوص الشعراء بمساءلتك ومقارباتهم ، بل استطاعوا أن يعمقوا نظرتنا للحياة والثقافة والفكر والتاريخ ، الشاعر اكتفيو باث والشاعر والناقد إليوت في الجانب الأوروبي وأدونيس في الجانب العربي ، وهذا يكفي حتى لا استرسل بالنماذج أكثر. * عمق حضور المكان في قصائدك ، هل هو ميثاق بين الذاكرة وطفولتك أم أنها تجارب مكانية متعددة كان لها وقعا في وجدانك الشعري؟ تكاد تجربتي الشعرية تخلو من الأمكنة المتعددة المرتبطة بحياتي أفقيا إلا ما ندر. لكنها بالتأكيد لا تخلو من الأمكنة المرتبطة بحياتي عموديا ، أمكنة الطفولة والسنين الأولى في مراتع الصبا ، تلك التي تفتحت حواسي على الإحساس بالحياة في تدفقها اليومي. وكل حضور للأمكنة بهذا المعنى يكون محملا بالحنين والرغبة في تفعيل الذاكرة والتقاطها من براثن النسيان. ويكون أيضا امتحانا حقيقيا على صمود براءة اللغة الشعرية أمام الذاكرة . قد تكون المحرق في البحرين والكوت في الأحساء وبحر الخليج العربي الفاصل بينهما هما المكانان الأكثر حضورا في شعري بالدلالة الرمزية أو الصريحة ، وانبثاقهما من عمق الذاكرة هو أحد المحفزات عندي على الكتابة. وقد تكون هي محفزات رئيسية في تجربتي نظرا لانحسار حضور الأمكنة في بعدها الأفقي ، تلك المرتبطة بتجربتي في الحياة. وهذا أمر أعده غريبا ، فقد زرت الكثير من المدن عربيا وغربيا ، وكتبت عن بعضها. لكن الإحساس الخارج من عمق الوجدان يظل ملتصقا بتلك المدينتين. * اختيارك لقصيدة النثر ، من اختار من ؟ و لماذا ؟ لم يكن اختيارا سهلا ، بالخصوص أنه جاء في وقت كنت أكتب فيها القصيدة الكلاسيكية والتفعيلة وكنت محاطا ببيئة من الأصدقاء الشعراء مهمومين بكتابة الشكل العمودي، وبكل ما يتصل بها من ثقافة وتاريخ وأخبار، وقد قطعت شوطا كبيرا من تجربتي في كتابتها. أيضا كانت المصادفات وتقاطعات الحياة لعبت دورافي التوجه إلى كتابة قصيدة النثر، وذلك حين قرأت قصائد في بداية التسعينات الميلادية إبراهيم الحسين وعبدالله السفر وأحمد الملا وغسان الخنيزي وحمد الفقيه وأحمد كتوعه الذين لا حقا أصبحوا من أعز الأصدقاء. وقد أتبع ذلك قراءات مكثفة ولقاءات وحوارات مع بعض الشعراء في العالم العربي . ولا أظن التساؤل عن لماذا هنا له معنى ، فالقضية تتعلق بالوعي بأهمية التجديد والانفتاح على العالم ، وكل هذا الأمر استشعرته في تلك اللحظة ، سواء كنت واعيا بها أم لا . * كيف تختار عناوين دواوينك الشعرية أو كتاباتك النقدية؟ أكثر الأحيان أستعين بالأصدقاء وأستشير أكثرهم بالخصوص في اختيار أسماء المجموعات الشعرية. أما كتاباتي النقدية لا أتعب كثيرا في الاختيار ، كثيرا ما يكون العنوان مرتبطا بالفكرة المسيطرة على الكتاب النقدية فيأتي إما بدلالة مجازية أو صريحة. * هل تعتبر أن الشعر ما زال يعد هاجسا ثقافيا أم أن حضوره انحصر في الدوائر الضيقة ما جعل الأغلبية تتجه إلى الرواية؟ سؤالك يفترض بين الشعر والرواية علاقة سبب بنتيجة، وهذا أكبر الأخطاء التي نرتكبها بحق الشعر والرواية في نفس الوقت. الشعر له فضاؤه الخاص الذي يتقاطع مع عالم الرواية سواء على مستوى البنية واللغة والتقنية. لكن دون أن يؤثر أحدهما على الآخر بالنفي أو الإلغاء أو حتى انحسار الاهتمام بالشعر على حد قول السؤال . لكن عوامل انتشار الرواية تتصف بأنها عابرة للمجتمعات والثقافات حتى أصبحت علامة بارزة على الثقافة المعاصرة عند جميع الشعوب ، وأهميتها لا تكمن فقط بأنها تنافس انتشار الشعر والفنون الأخرى ، وإنما أصبحت إحدى الأسس التي يرتكز عليها تطور المعرفة الإنسانية بأقولها المختلفة. بينما الشعر يبقى المحفز عند الإنسان في هذا العالم على اكتشاف اللامرئي في هذا الكون الفسيح . اختلاف العوامل والمؤثرات لا يلغي أو يضعف أحدهما الآخر ، حتى وإن بدا ظاهريا عكس ذلك. * ما مكانة الشعر العربي اليوم ؟ أظن إجابة هذا السؤال متضمن في إجابة السؤال السابق ، فما ينطبق على الشعر بشكل عام ينطبق بصورة أو بأخرى على الشعر العربي. لكن السؤال هو من أي جهة البحث عن مكانته؟ فإذا كان المقصود خلاف ما ذكرناه حول الشعر بشكل عام ، ويتعلق بمنزلته على سلم الشعر العالمي ، فإن عيون الشعر العربي قد ترجمت إلى لغات عدة حيث تأثر به كبار الشعراء العالميين . * ما هي إنتاجاتك الإبداعية مستقبلا ؟ عندي نصوص ومخطوطات كتب مكدسة ، عزفت في الآونة الأخير على دفعها للطباعة ، وعزوفي عن عدم الطباعة نابع من حرصي على مراجعة كل ما كتبته ، وعندي رغبة جارفة في العودة إلى الأرشيف بوصفه تأريخا للحياة الإبداعية التي نشأت عليها. * أي لقب مقرب أكثر إلى محمد الحرز: لقب شاعر أم ناقد ؟ الأساس بالنسبة لي هو الشعر . لكني دائما ما أكون حذرا حين يقال لي شاعر بحيث دائما ما أسبقها بكلمة : مجازا أسمي نفسي شاعرا . وبالتالي “ من الصعوبة بمكان – كما يقول الشاعر الكبير صلاح ستيتية- أن يقول الإنسان عن نفسه شاعرا ، فأنا لست سوى تلميذ كآبة كما يقول شارل دورليان” . * هل الشعراء العرب اليوم تمكنوا من ترجمة ما نعيشه من واقع إنساني مضطرب من خلال الصورة الشعرية و الكلمات ؟ مهمة الشعر في تصوري لا تترجم الواقع ولا تعبّر عنه انعكاسا أو تجليا . لكن المقياس عندي هو أن كل ما يحرر الإنسان هو مهمة الشعر بالضرورة. فهل واقعنا العربي الثقافي والإبداعي يفضي إلى هذا المعنى من الحرية . أشك في ذلك .