في كتاب «الترامبية» للدكتور علي الخشيبان..

قراءة الظاهرة الأمريكية بعيون سعودية.

حين أطالع كتاب «الترامبية: السياسة الأمريكية في مواجهة العالم» للدكتور علي بن حمد الخشيبان، الصادر عن دار «جداول» مؤخرًا، يتبادر إلى ذهني أن مبادئ السياسة الواقعية تكاد تكون أزلية (أعني أزل البشر السياسيين)، وهذا إنما يعني أن العلوم السياسية تعود بطريقة دائرية لتقول في النهاية ما يعرفه كل سياسي محنك من صميم الحياة السياسية. لم تكن كاترين الثانية، على سبيل المثال، لتحتاج إلى أن تكون ذات دراية بمخطط توازنات توماس هوبز؛ إذ مارست الواقعية التوسعية بحنكة قيصرية، وهذا يعني أن الفعل السياسي يسبق النظرية السياسية، وفي ضوئه تصاغ النظرية لاحقًا؛ من أجل تنظيم المعرفة، وتحليل السلوك السياسي الذي قد يبدو ملتبسًا أو غيرَ مفسّر أحيانًا، ويُستفاد من النظرية في تحسين أدوات الحكم الحديثة، والتذكير بها، والتحقق منها، ومن أجل إعداد غير المحنّكين لفهم المجال السياسي دون حاجة إلى سنين مديدة من التجربة. وإذنْ فقد كانت كاترين ستجد في العلوم السياسية أدوات لتحسين إدارتها، لا لفهم خصومها الذين تعرفهم مسبقًا، ولا لمعرفة أهدافها التي ترسّخت في وعيها ووجدانها. لقد جاء ترامب ليعزز أهداف الإمبراطورية الأمريكية الرأسمالية المطروحة على الطاولة منذ مئتي عام، ووجد الساحة مناسبة للحظة من الصدق الرأسمالي الفجّ، واستغل في سبيل ذلك مفاتيح عدة، منها: الاستعانة بالدين والخوف من المهاجرين، وهذان المفتاحان مضمونان حاليًا لكسب ولاء جماهير الأمريكيين البيض الموتورين، في ظل غياب عدالة اجتماعية ناجزة وانعدام للحريّة الحقيقية داخل مطحنة السوق الأمريكية. لكن المفارقة أنه، في ظل هذا التمزق، وتعرّض الأمريكان البيض للتلاعب بهم، ربما تتشكل بعد منتصف العقد الميلادي الذي نعيش فيه ملامح وعي أبيض جديد، لم تتضح ملامحه بعد، يحمل في داخله رغبة دفينة في استعادة معنًى للحياة والكرامة، لكن خارج سردية التفوق الأبيض التي فاتها القطار. ترامب يستخدم أساليب أزلية، ظهرت منذ نشوء أول جماعة بشرية لديها قلقُها من تلاشي مجدها الموروث، أساليب من قبيل: كيف يطالِب فاشلو العالم من أفريقيا وأمريكا اللاتينية، أو حتى من الهند وبنغلادش، جماعة رائدة مثل البيض في أمريكا، الذين استحوذوا على أراضي بلادهم ووحّدوها بالعرَق والبارود، بأن يفتحوا حدودهم وثرواتهم لشذاذ الآفاق! إن الترامبية، رغم كل التبسيط الذي يحيط بها، ولا أبرئ هذه المقالة من ذلك، كشفت عن حاجة دفينة لدى البيض إلى سردية تنقذهم، لا من الآخَر الدخيل أو الصاعد من بين الأنقاض، بل من تفسّخهم الذاتي، ومن شعورهم العميق باللاجدوى في عالم ما عاد يشبههم ولا يرحب بهم. لقد استغل ترامب بذكاء منطق «الذنْب الأبيض» بطريقة معاكسة تمامًا، حيث كشف عُري اليسار الأمريكي الذي يصوغ سردية تقول: البيض مسؤولون عن فشل العالم لأنهم استعبَدوا السود ونهبوا الثروات وأبادوا الهنود الحُمر، وعليه فإن عليهم أن يدفعوا ثمَن ذنبهم التاريخي، بأن يفتحوا الحدود والسوق ويمنحوا المهاجرين حقوقًا، ويصمتوا أمام التغيير الهووي والديمغرافي، ويسمحوا لطبقتهم بالاندثار. لا جديد في خطاب اليسار الأمريكي، فهو على رغم مزاعمه الإلحادية والنيوليبرالية مألوف جدًّا في الأوساط المسيحية، وقد أجاد المسيحيون، منذ عهود الحروب الصليبية، اللعب على هذا الوتر الناعم، دون أخذه على محمل الجد حين تتأزم الأمور. إنه خطاب علماني مساواتي في الظاهر، ديني في العمق؛ إذ يحتوي على المثلث المسيحي المعروف: خطيئة، وكفارة، واعتذار دائم. وقد استفاد ترامب من عكس هذا الخطاب بسهولة، فقلَب السحر على الساحِر، ولم يكن يحتاج إلى جهد كبير ليُثبت للعالَم، ولأمريكا قبل ذلك، أن خطاب اليسار يزرع الكراهية العكسية، ويحوّل العمل في بيئة السياسة والاقتصاد إلى جَلد جماعي أخلاقي للذات. رأى أبناء الطبقة المتوسطة من البيض أن وظائفهم تُنتزع منهم، وهُوياتهم وقيَمهم تهان، وأن النخب اليسارية تهاجمهم أخلاقيًا، وأما المُهاجِر الجديد فهو يدلَّل مثل ملاك منزّه معصوم؛ ولهذا استطاع ترامب أن يصنع منهم من الناحية الأدبية: ميليشيات مؤيدة، وقوميين بيضًا، وخطابًا للهوية المضادة. ولم يكن البيض، الذين أيّدوه في نهاية الأمر، يطلبون امتيازًا خارقًا، بل أردوا موطئًا للشعور بالانتماء، واعترافًا بالتاريخ والحاضر، داخل سردية وطنية تهتزّ وتتآكل، ولهذا فإن خلاصهم الآتي، بعد هذه المرحلة، قد لا يكون في الزعيق أو الصناديق، بل في لحظة جماعية يستعيدون فيها المعنى، ويعيدون فيها اكتشاف ما يستحق أن يُحمى ويُحافظ عليه. إن سبب قدرة ترامب على تحشيد البيض الموتورين هو أن اليسار الأمريكي حوّل الصراع الطبقي إلى صراع أخلاقي، ونقَل المهاجِر من كونه فاعلًا سياسيًا إلى أيقونة للخلاص، دونَ ثمَن بارز يدفعه على الأرض، غير تغيير القوانين ومزاحمة الأبيض، الذي يجري تأطيره وتغيير صورته الذهنية: من إنسان يحتاج إلى التقدّم، إلى رمز للخطيئة والشر الموروث. ومع الوقت تبيّن أن هذا الخطاب لا يصنع عدالة، بل يُنتج ردة فعل عنصرية؛ ليست عنصرية بالمعنى الذي قضت عليه الحرب الأهلية وتعديلات قوانين الحقوق المدنية والتكافؤ في الفرص، ولكنها أقرب ما تكون إلى رَدّة فعل اجتماعية، قد لا تكون مقبولة من حيث إنها حنين إلى طيف من الماضي المندثر، ولكنها مفهومة الدوافع؛ لأن الظلم حين يعاد تدويره للحصول على مزيد من المزايا لطرف من الأطراف فهو يتحول إلى قنبلة مؤجّلة، صحيح أنها لن تبلغ من القوة بحيث تراجِع الدستور والقانون الأمريكيين؛ فهذا لن يحصل إلا بحرب أهلية، ولكنها قنبلة يمكنها على الأقل أن تنفجر في وجه الديمقراطيين في يوم كيوم الانتخابات. وهذا هو الأمر البديهي الذي فهِمَه ترامب، وكان يكمن دهاؤه (ببساطة) في استعماله. لكن، إذا تعمّقنا قليلًا، فالترامبية ليست محصورة في ذلك فحسب، إنها تعكس خيبة أمل الطبقة المتوسطة البيضاء الأمريكية، بعد انهيار الوعد النيوليبرالي الذي بشّرها بالعولمة كمفتاح للرخاء. لقد تآكلت طبقة البيض التي كانت الحاملة الاجتماعية للشرعية الرأسمالية الليبرالية، والتي لن يُنسى أن رموزها التقدميّين هم من أجروا التعديلات الجوهرية وتفادوا أن تصبح الولايات المتحدة جنوب أفريقيا أخرى، ومن هنا يمكن أن يقال إن الترامبية جاءت لتعيد تشكيل التحالف العتيد بين أوساط هذه الطبقة، ولو على نحو رمزي. وكما يبيّن الخشيبان، فالترامبية ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد جاكسوني، رغم أن الرئيس أندرو جاكسون لم يكن غنيًا ولا ثريًا، لكن الجاكسونية حين ننثر عليها توابل ترامبية تصبح ملتقًى تتقاطع عنده غريزة البقاء عند البيض المهدّدين، والرأسمالية الريعية، والخطاب الديني، والتوجّس من الأقليات الصاعدة، تحت راية «الشعب الحقيقي». وأضيفُ من وجهة نظري أن ما يُرى حاليًا، كعنصرية بيضاء في الولايات المتحدة، ليست عنصرية عميقة كالعنصريات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ولا كبقاياها في بدايات القرن العشرين، بل هي خطاب حنين مبطّن إلى ماضٍ من المجد، ينطلق في العمق من غريزة الحفاظ على النوع ومن إدراك ضرورة التعبئة الطبقية، وهي لا توظَّف لمنع السود واللاتينيين من دخول الولايات المتحدة ولا من حمل هويتها الوطنية؛ فترامب يعرض بيع الجنسية الأمريكية بخمسة ملايين دولار، وإنما توظَّف لنوع يشبه ضبط المصنع للهرمية في المجتمع الأمريكي، حتى لا يتمادى التغيير إلى درجة تصبح معها أمريكا دولة نصف لاتينية نصف أفريقية، تعيش فيها أقلية محرومة من البيض. بيد أنه ينبغي التنبيه على أنه ليس غريبًا، والحال هذه، أن تتشكل في الخفاء شبكات ثقافية وفكرية تحاول أن ترمم الكينونة البيضاء بما يتجاوز الانفعال الترامبي، وتؤسس لصيغة جديدة من استعادة التاريخ وإحلاله في الحاضر، في هيئة ليست استعمارية، لكنها أيضًا ليست اعتذارية. وفيما يتعلق بالموقف من الخارج فإن الترامبية تتظاهر بشيء من الحمق والجرأة في المساومة، ولكن ذلك يرجع في المآل ليخدم الطبقات الرأسمالية نفسها، داخل إطار هيمنة النخبة الأمريكية الثرية، مع وعود غير صادقة للطبقة الوسطى البيضاء؛ فمَن يقف أمام زعماء العالَم ويحاول ابتزازهم، أو إِحراجَهم، ليس شخصًا يجهل كيفية إبرام العقود وتوثيقها والالتزام بها، وإنما هو رجل أعمال يفهم ذلك جيدًا ويريد من الآخرين أن يفوا لهم بما عاهدوه عليه، لكنه في الوقت نفسه شخص مفاوِض، لا مانع عنده من إحداث التوتر أو التلاعب ببعض القواعد، من أجل إعادة تفكيك التحالفات الدولية، ولا سيّما وهو يتقدّم إلى الأمام حاملًا في يده آلة لضبط السوق العالمية، تمامًا كما يرغب في ضبط سوق العمل الأمريكي، لمحاولة إرباك التضامن بين اليسار والطبقات الدنيا الصاعدة إلى مزاحمة طبقة البيض، وهنا نشير إلى أنه حتى عداء ترامب لبعض المؤسسات الإعلامية لا يتضمّن في عمقه رفضًا لحريّة الصحافة، فقد تجاوزت أمريكا ذلك بعقود طويلة مثلما تجاوزت العنصرية التقليدية، وإنما هو ترويض للسلطة الإعلامية الرمزية؛ لكي تتكيف مع مصلحة رأس المال الفردي. ولا ننسى أنّ ما يسعى إليه ترامب ليس أمرًا كان غائبًا عن أسلافه القريبين من البيض، وإنما هو نوع من كشف الأوراق. صحيح أن رموز المجتمع اللامعين يريحهم أن يقدَّم ترامب على أنه رجل أعمال يجسد تمردًا على النموذج الديمقراطي الأمريكي المنفتح، أو أن ولايته تمثّل لحظة فوضى مؤقّتة يقودها رجل مسكون بالمجد الشخصي. لكن هذا القراءة المريحة يختفي خلفها النظام الأمريكي الذي يريد أن ينفّذ ترامب أهدافه المرجوّة دون أن يتحمل النظام أي مسؤولية أدبية عنها. وما يجعل ترامب مخيفًا أكثر أنه يواصل تنفيذ مشاريع ريغان أو بوش دون مراوغات أو دبلوماسية عميقة، لا أنه مختلف عنهما كثيرًا. إذن فشخصُ ترامب غير مخيف، خلافًا لما هو شائع، بيد أن ما يستحق الإخافة هو الذي يكشفه هذا الرئيس الأبيض لنظرائه في الخارج وللبيض الأمريكيين في الداخل؛ فهو لا يقدّم بديلًا، وإنما يعرّي غياب البدائل، لا سيّما بعد إخفاق نموذج بايدن وهاريس في التهدئة مع الحلفاء ومع المحافظين في الخارج والداخل. وبينما يحاول منافسوه على السلطة والنفوذ، من الديمقراطيين وغيرهم، الهرب من غياب أي بدائل، بالخطابات الملتوية، والمزيد من الانحلال، ومواصلة بث التفكّك في الأنظمة الراسخة، يظل هو يواصل مسعى النظام الأمريكي، فاضحًا منطق الهيمنَة دون رتوش، منفّذًا مشاريع البنية العميقة في الولايات المتحدة، غير آبهٍ ولا ملتفتٍ إلى الأضرار التي يُحْدِثُها بالديكور الأخلاقي الدبلوماسي. وفي ظل ذلك، تظل الكتلة البيضاء، التي أسندته وأوصلته إلى سدة الرئاسة، تبحث، في ضوء وعيِها بواقعها البارد والقاسي، وفي حالتها التي يُرثى لها، عن صيغةٍ لا تعيد الماضي البائد كما هو، ولا تسلّمه إلى مقصلة الحاضر بالكامل.