فاطمة الفهري ..

مؤسسة أقدم جامعة في العالم.

“ فاطمة الفهرية “ ( 800 – 880 م ) سيدة تونسية المولد، عرفت بعلمها وسعة ثقافتها، وأعمالها الخيرية، ولها يعود الفضل في تأسيس أقدم جامعة في العالم، منارةٍ للعلوم لم ينقطع نشاطها التنويري منذ القرن التاسع حتى اليوم: جامعة القرويين، بمدينة “ فاس “ في المغرب. ولدت فاطمة في تونس، مدينة القيروان، وقد ذُكر أنه من هنا جاء اسم الجامع والمؤسسة التعليمية التي ستصبح فيما بعد مركزاً لتبادل الأفكار والثقافة بأرفع مستوياتها، جامعة القرويين. هاجرت في شبابها، مع أسرتها، إلى مدينة فاس المغربية، التي كانت قد أصبحت في تلك الأيام مركزاً عالمياً مزدهراً للتجارة، والثقافة والأبحاث والتبادلات الفكرية، لتبلغ أوج ازدهارها كمركز فكري وثقافي وتجاري في القرن الثالث عشر. ويذكر المؤرخ المغربي “ ابن أبي زرع “ في كتابه “ الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس “ أن والد فاطمة، “ محمد ابن عبد الله الفهري “، كان تاجراً عربياً مزدهر الأعمال. وقد ورثت مع أختها مريم ثروة طائلة من أسرتهما. جامع القرويين كرست الأختان أموالهما لأعمال الخير وبناء مدارس ومساجد. بنت مريم جامع الأندلس، بينما أنشأت فاطمة مجمع جامع القرويين الذي ضم عدداً من المدارس. ومن المعروف أنه غالباً ما كانت المساجد في العالم الإسلامي أيضاً مراكز اجتماعية وروحية، تعليمية وخدمية خيرية وتدريسية... وفي أول يوم من شهر رمضان لعام 859، وضعت مع أختها أسس الجامع ومدرسة متاخمة له. استعانت فاطمة بأبرع مهندسي ذلك الزمن وأمهر حرفييه، وخصته بأجود مواد البناء. اشتمل جامع القرويين، بمخططه العمراني الإسلامي التقليدي، الخاص بمباني المساجد، على ساحة فسيحة، مبلطة بالسيراميك وتحوي نافورة وحوضاً للتوضؤ. وأحيطت الساحة بممر مقنطر يتيح تهوية الأحياز الداخلية. ضم المسجد أيضاً مكتبة وحجرات خاصة بالنساء للدراسة والصلاة. يقدر المؤرخون أنه استغرق الأمر سنتين، من 857 إلى 859، لبناء أقسام جامع القرويين الرئيسية برعاية فاطمة، التي كانت تشرف كما قيل بنفسها على كل تفصيل معماري وحرفي. وبين عامي 1134 و1143، وسِّع مجمع الجامع ليتخذ أخيراً شكله الحالي. وبين عامي 1606 و1623، أضيفت إلى الساحة نوافير أخرى وازدانت ببلاط أزرق اللون. ومع مرور الزمن، تحولت مدرسة جامع القرويين إلى مؤسسة للتعليم العالي واستقطبت باحثين وعلماء شهيرين من العالم الإسلامي كله، ثم فيما بعد من أوربا القرون الوسطى. الانتقال إلى وضع الجامعة من الصعب تحديد الزمن الدقيق الذي انتقل فيه جامع القرويين إلى مؤسسة تعليم عال مميز، غير أن العديد من الوثائق التاريخية وقصص الرحلات تؤكد أن هذا التعليم اتسم بالرقي والشمول والمقدرة، وأن هذا النشاط كان يمارس على شكل حلقات تعلم، حيث كان يجلس الدارسون في نصف دائرة حول معلمهم في قاعات المدرسة. ويشير المؤرخ والسفير المغربي عبد الهادي التازي ( 1921 – 2015 ) إلى أن أقدم بحث مكتوب حول التعليم في القرويين يعود إلى العام 1141، بينما يذكر زميله ومواطنه المؤرخ “ محمد المنوني “ أن الجامع أضحى مركزاً رسمياً للتعليم العالي يمنح شهادات تأهيل للباحثين بين عامي 1040 و1147. وبذلك، فإن غالبية المؤرخين متفقون على القول إن مؤسسة القرويين كانت أول مؤسسة في العالم تمنح شهادات، وشكلت مركزاً للنقاشات العلمية والتبحر فيها، أي جامعة، أرست قاعدة مقياسية ستغدو فيما بعد مرجعية لمؤسسات التعليم العالي في العالم كله، وقد استقطبت الباحثين والعلماء والطلبة والمحاضرين من كل أنحاء المعمورة، بما في ذلك آسيا الوسطى وجنوب آسيا والمشرق والحجاز. وترى غالبية الاختصاصيين أن مجمع القرويين بلغ أوج ازدهاره كمركز فكري وثقافي ممتاز – في ميدان العلوم الروحية والفلسفة وعلم الكلام على حد سواء – في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وقد اشتمل برنامج الجامعة، فيما اشتمل، على الجبر، وعلم النبات، ورسم الخرائط والجغرافيا، وتفسير القرآن الكريم، وقواعد اللغة، وعلم الفلك، والتاريخ والأدب، والمنطق، والرياضيات والطب، والفلسفة، والفيزياء، ولغات أجنبية، من بينها الإغريقية واللاتينية. علماء شهيرون من بين العلماء الذين درسوا في القرويين وكان لهم تأثير في التاريخ الفكري والأكاديمي في العالم الإسلامي يذكر البيروني ( 973 – 1048 )، العالم الموسوعي الذي قدم إسهامات أساسية في مجال الرياضيات، والفيزياء، وعلم الفلك، والجغرافيا؛ والإدريسي ( 1100 – 1165 )، الجغرافي الذي درس جغرافيو عصر النهضة الأوربيون خرائطه بدقة؛ وابن طفيل ( نحو 1100 – 1185 )، مؤلف أول رواية خيال علمي في العالم والمشهور بمؤلفه الفلسفي “ حي بن يقظان “؛ وابن رشد ( 1126 – 1198 )، مترجم أرسطو وشارحه؛ والبطروجي، عالم الفلك المتوفى في العام 1204؛ وابن عربي ( 1165 – 1240 ) الفيلسوف والشاعر الصوفي؛ وابن خلدون ( 1332 – 1406 ) المؤرخ الذي أرست أعماله أسس علم الاجتماع الحديث والتاريخ والاقتصاد السياسي؛ وحسن الوزان ( 1494 – 1554 )، أحد رواد علم الجغرافيا. وكان الباحثون الأوربيون قد أخذوا منذ وقت مبكر يدرسون الأعمال التي تنتجها جامعة القرويين، مترجمةً إلى اللاتينية، مما أضفى على الجامعة شهرة واسعة في العديد من الأوساط. وراح رهبان وعلماء أوربيون يؤمون المدرسة، من بينهم النحوي الفلندري “ نيكولاس كلينايرتس“ ( 1495 – 1542 )؛ والبابا الشهير “ سلفستر الثاني “ ( من 999 حتى 1003 ) الذي قيل إنه جلب معه استعمال الصفر والأرقام العربية بعد أن درس في القرويين. وفيما بعد، درس المستعرب والمترجم “ جاكوب غوليوس “ ( 1596 – 1667 ) أيضاً في الجامعة نفسها. الجامعة الأقدم لقد وجدت مؤسسات للتعليم العالي قبل القرن التاسع في عدد من مناطق العالم، إلا أن منظمة اليونسكو وموسوعة غينيس للأرقام القياسية، من بين منظمات ومؤسسات أخرى، صنفت القرويين على أنها الجامعة الأقدم والأطول زمناً في استمرار النشاط على المستوى العالمي. وتأتي بعدها جامعة بولونيا الإيطالية من حيث قدمها واستمرار نشاطها، وقد بنيت بعد القرويين بنحو 230 سنة. وفي العام 1947، دمجت جامعة القرويين ضمن النظام التعليمي للدولة، ثم أصبحت رسمياً تحت رعاية الدولة عام 1963 بعد الاستقلال، وباتت تضم أربع كليات جديدة وقسماً لتأهيل المعلمين. وفي العام 2015، أعلنها مرسوم ملكي مؤسسة عامة مخصصة للتعليم العالي والبحث العلمي مع تشريع خاص يضمن استقلاليتها المالية، والتعليمية والعلمية / البرامجية. واليوم، أكثر الشهادات المطلوبة في القرويين هي اللغة والأدب العربيان، والدراسات الإسلامية والثقافة والتاريخ المغربيان. وأصبح يمكن للنساء الانتساب للجامعة والحصول على شهادات منها منذ العام 1930. المراجع HYPERLINK “https://archive.org/details/rawdolkirtas” /t “_blank” “ الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس “، ابن أبي زرع، الطبعة 1، دار المنصور، المملكة المغربية، 2020. “ جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام بمدينة فاس “، أحمد بن القاضي، الطبعة 1، دار المنصور، المملكة المغربية 2020. “ جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس “، عبد الهادي التازي، الطبعة 2، دار نشر المعرفة، المملة المغربية، 2021. “ جامعة القرويين تمنح أول إجازة في الطب “، محمد زين الدين الحسيني، الطبعة 1، الدار العالمية للكتاب، الدار البيضاء، المملكة المغربية، 2017. “ موسوعة التاريخ العالمي “، لندن 2025 ، سكينة كرمالي أحمد.