القصة النسوية السعودية بين جيلين..

قراءة في مجموعتين قصصيتين يفصلهما 18 عاماً.

ثمة مجموعتان من مختارات القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية تفصل بينهما مدة زمنيّة مقدارها ثماني عشرة سنة ما بين عام 1425 هجرية وعام 1443 الأولى (قصص من السعودية ) مختارات جبير المليحان، والثانية (مئة قصة قصيرة من السعودية) مختارات خالد اليوسف، وقد سبق أن قدمت قراءتين لنماذج منهما ؛ وفي هذه المقالة رأيت أن أقف على نماذج من القصة النسويّة من كليهما في محاولة لتبيّن بعض الظواهر الجديدة في القصة القصيرة السعودية ، وقد ضمت المجموعة الأولى ثلاث عشرة قصة من ما مجموعه سبعون قصة بنسبة 18% تقريباً ، وضمت الثانية أربعاً وعشرين قصة من ما مجموعه مئة قصة أي بنسبة 24% ولم يتكرّر من الكاتبات في المجموعتين إلا ثلاثة أسماء : حكيمة الحربي ووفاء العمير وأميمة الخميس . وقد رأيت أن أقدّم قراءة لبعض النماذج من المجموعة الأولى ؛ ثم ما يماثلها من المجموعة الثانية في محاولة لرصد الظواهر الفنية مقارنا بين المجموعتين وما بدا من ظواهر جمالية في المجموعتين . في قصة خديجة الحربي (الأقدام) تقَصٍّ للتفاصيل واستنطاق لها وتركيز عليها وتدقيق في إيحاءاتها ، وغموض شفيف يتغشّى حوافّها وشخوصها واقتصارها على إشارات للضمائر دون الأسماء، والحركات دون الأفعال والأشياء دون الأحياء ورصدها في أماكنها وما ينتمي إلى ما يطرأ عليها وكأنها صاحبة القرار في حركاتها وسكناتها (الوردة والعقال وفنجان القهوة) وأما المكان فهو ذو خصوصية يضفيها عليها الموقف ، أما الجوارح وأصوات الأقدام فهي محور التركيز والتكثيف ، ومنها اشتُق العنوان عتبة النص الأولى ؛ وأما العلامات والإشارات فتتبدّى كفقاقيع الماء المغلي أو الزبد الذي يطفو على ماء البحر، وعلى القارئ أن يلملم أشتات الدلالة في إطارين رئيسين : استحضار العلاقة بين الأنوثة والرجولة (النادل والساردة) و طوارئ الوقائع وما توحي بها؛ فالنادل وابتسامته والراوية وهواجسها، والفتاة الطارئة وغيابها ، ورحيلها عن المشهد منصرفة إلى الهاتف والصوت الذي بداخله ، والرجل الجالس وعقاله وتنحيته للوردة وتطاير أوراقه ، وعلى القارئ أن يلملم الإيحاءات والإشارات المتناثرة التي تتبعها الساردة المشاركة في المشهد السردي وإطاره المكاني والزماني : المقهى وملامحها وروادها الذين تستجلبهم الساردة وتستنطق حركاتهم (حركة الفتاة) وحركة (النادل) ومغادرة الفتاة للمكان دون أن تهتم بمخلفاتها على الطاولة ، والتركيز على حركة المغادرة ووقع الأقدام وأصوات الخطوات، تشكيل لعالم خاص هو عالم الدلالة الذي تستنطق من خلاله الكاتبة تضاريس المشهد ، والعلائق والحركات وطوارئ الوقائع ؛ كل ذلك يمثل ألواناً من القلق الذي ينتج عن تمثّلات الساردة للمشهد بما يتفاعل فيه من حراك متخلّية عن تقليديّة المعمار الثلاثي للقصة القصيرة التقليديّة (البداية والذروة والنهاية) ؛ فالحركة في القصة أفقية وليست عمودية ؛ بمعنى أن على القارئ أن يطفو مع وقائعها على سطح المشهد ، ويرصد ملامح التوّتر فيه ، ويعيد تنظيمه واستنتاج ومضاته الإيحائية وبنيته الدلالية. فالعالم الفسيح والركن القصي في المقهى ووقع ىأقدام المارّة كتساقط المطر والطاولة المخصوصة وتفاصيل الجسد وتقاسيم الوجه والوردة واستنشاقها إلى آخره ؛ كل ذلك يعكس نزعة تحديثيّة تجعل الأشياء متقدّمة في دلالتها على الأحياء، وتفاصيل البناء أكثر أهمية من أطرها وكلياتها. في قصة (رضا) لسمية الحجاج إطلالة فلسفية وجودية وجدانية على عالم الطفولة ، تحمل سيمياء أنثويّة عاطفية أصيلة ليس بالمعنى الإنشائي العام المترهل الدلالة المبتذل التداول ؛ ولكن بمعنى التعبير عن الشعور العميق ببراءة الطفولة وأحاسيسها البكر وسذاجتها المُستحبّة ؛ مقاربة نوعيّة بين وجهين بريئين ، الأول يحمل معنىً حزيناً وشعوراً عميقاً بالفقد والغياب ومفهوماً مستتراً لمعنى القضاء والقدر ؛ والآخر مقابل له ونقيض يشي بالفرح والبقاء ، وكأن الكاتبة تفضي برؤية كونيّة ؛ فرضا (الطفل) وهذا الاسم اختارته الكاتبة بوعي للطفل الذي يحمل علبة النمل ويحتال هو وأمه لتلافي موت تلك الكائنات الصغيرة نتيجة لحرمانها من الهواء ، فلا يستطيع، وينتهي به الأمر إلى الرحيل مجيباً على سؤاله الوجودي العميق عن الموت الذي يصبح ضحية من ضحاياه ، فلا يفلح في حماية كائناته الصغيرة من النمل؛ ولا يتجنب ذلك المصير تاركاً حسرةً مقيمة في نفس معلمته ، أما الوجه الآخر المُتمثل في زميله الطفل (هادي) وهو اسم مختار له دلالة في سياق هذا النص فيستبدل الفراش بالنمل ؛ وللفراش رمزيّة خاصة أيضا كما هو الحال بالنسبة للنمل فراشة ملونة في علبة ملونة ) وجه آخر من وجوه الوجود ، والورقة الخضراء والثقب نقيض ذلك الذي حمله رضا الراحل : ثنائية الوجود والعدم. مشهدية قابلة للقراءة والتأويل ، وخطاب يقتحم سياق السرد والوصف، وتوظيف لرمزية الألوان وبراءة الطفولة وتأمّل عميق في المصائر و المآلات والتأكيد عل تحييد الزمن ودوره في تلك الثنائية (ثنائية الحياة والموت). في قصة(المكنسة السحرية) لبدرية البشر نفس روائي فهي تقع في شريط لغوي طويل ، تتعدد فيه مفاصل الحدث وكذلك الشخصيات نسبيا، ولكنها لا تتجاوز البنية المشهدية المألوفة في التشكيل ، وتنطوي على الأزمة والتوتّر المقلق الذي يناسب القصة القصيرة ، وكما هو معروف في أسلوب بدرية البشر القاصّة والروائية فإن الموقف الفكري والانطباعية التي تخلفها لحظة التنوير حاضرة في ختام القصة ، فالمكنسة السحرية ذات طابع رمزي كما هي الحال في قصتها (الجسر) وغيرها من قصص الكاتبة ، فالعنوان حافل بالمعنى وهو السبيل المباشر إلى الولوج إلى رحاب الرؤية في القصة، المكنسة هنا ذات دلالة مزدوجة؛ بل كنز مذخور بالدلالة، خصوصاً بما انطوت عليه من مفاتيح دلالية تمثّلت في علامات سيميائية وافرة : الفتاة الجريئة التي تتزين والمرأة أم الطفل والسخرية وتعثر القدرة على البيع لدى شرائح اجتماعية متعدّدة تلامس واقعها المعيشي والعلائق الحميمة والإغراءات والانحرافات والأمكنة ذات الدلالة والمستويات والعلائق ذات المعاني المتصلة بالأنوثة والرجولة والانحرافات والالتواءات ؛ فالمكنسة التي من شأنها التنظيف تنطوي رمزياً على وظائف ضدّية تقود إلى مفارقات تناقض هذه الوظيفة ، وثمة أبعاد نفسيّة تتصل بطبيعة المرأة العاطفية ودموعها التي تستدرّ عطف الرجال، والقلق الذي تمثله الوظيفة المطلوبة (مندوبة المبيعات) والطموحات المتخيّلة والوهج المادي ، ومظنة السقوط وإغراءات المال ، فالمكنسة مفتاح الدلالة إلى وهم الثراء. ظواهر جمالية متعددة في بنية القص والوصف وتداعي المواقف وسبل النجاح و السقوط ومآزق الطموح ومصائد الأطماع وأزمة الأنوثة في مجتمع التجارة وإغراءات المال و الجاه ومصائد الواهمين ، أما العبارة الأخيرة التي يأتي فيها التساؤل عن قدرة المكنسة السحرية على الطيران فهي لحظة التنوير دائمة البثّ في اتجاهات متعدّدة تحتاج إلى بصيرة القارئ وقدرته على التقاط الرساالة . وفي قصتها القصيرة جدا (الجياد) تطأ هدى عبد الله بقلمها حقلاً يبدو جديدا مزروعاً بالرموز مكنّىً عنه بالجياد وآخر بالقمر والورد ، قصة مدجّجة بالشعر، مصقولة بالفكر، مثخنة بالرموز مشوبة بالغموض ، بطلتها تمشي الهوينا في طريقها إلى الاصطبل ، فمن هي هذه الفتاة التي ترتاد هذا المكان الذي يلفتها فيه الجواد الأبيض ؛ فهل الاصطبل عالمها الافتراضي والجواد الأبيض الذي يقابل حركته عندها حركة قلبها، حيث يرفع قوائمه المنتشية فتنسكب القوة في قلبها ، لا يمكن لقارئ أن يسلم أن حركة قائمتي الجواد التي تنسكب فيهما قوته تقابله قوة تنسكب في قلبها ؛ إنه رمز رجولة لافتة وعشق مفاجئ ، وما الجواد الأبيض إلا فتى أحلام مُنتظر وعاشق آسر؛ أما بقية الجياد في الاصطبل فهم هوامش على متن سرديّة العشق الخاصة ببطلة القصة التي تروي وتصف، ثم هي تخاطب ذاتها منتشية بنشوة الجواد الأبيض يكاد رأسها يناطح السحاب ؛ منحى لافت في القص تتداخل فيه الرموز في لغة تعبيرية رمزية لافتة ، وهي في دخولها إلى اصطبل الجياد كأنها تدخل إلى عالم الرجال مكنّىً عنهم بهذه الجياد ؛ فمنهم من هو ملهيّ بحشو بطنه لا يلوي على شيء ، وهو ما يثير قرفها واشمئزازها، فتزورّ عن هذا المشهد لتلتقط في خيالها صورة نقيضة بريئة تتمثل في الأطفال الذين يطؤون القمر والورد صورة نقيضة ، وأما الجياد المتعددة الألوان والأحجام التي تحاصرها فهي أصناف أخرى من الرجال الذين أفرزت من بينهم جوادها الأبيض ، وهو يشغلها واستغرق عالمها حين حط بقوائمها في قلبها ولم يدع مكاناً لغيره ؛ ولكنه مات بعد أن غرس سهامه في قلبها وتنتهي القصة في خاتمة المطاف بسؤال حائر محيّر : هل مات حقاً أم مازال مختبئا بين الضلوع؟ ولعلي في مقالة قادمة أقدم قراءة لمجموعة مماثلة مما نشر في المختارات الحديثة لاستنباط الظواهر الجديدة في القص النّسوي إن شاء الله.