لغة البيان بغير لفظ وقصد في التراث العربي .

قيل: "اللغة أضعف وسائل المعرفة، فهي غير قادرة على التعبير". لذا فإن في بعض الأحيان نجد أن الإشارة أسهل وأبلغ في توصيل المعلومة عن اللغة، فتستطيع الإشارة ما لا تستطيع العبارة أن تحدده من خلال حركات من المحتمل أن تلقي استجابة لدي المستمع أو المتلقي فكم من إيماءة أو هزة رأس أو إشارة بيد أفصحت عن معني ودلالة. وفي البلاغة اللغوية جاءت الإشارة أصلاً والرمز فرعاً. فالرمز نوع من أصل عشرة أنواع أخرى تشتمل عليها الإشارة التي تعد أحد المقومات الكبرى للعطاء الشعري المبرز، وخير ما يوصف به الشاعر الماهر الحاذق، وهذه الأنواع، حسب تقسيم ابن رشيق القيرواني هي: التفخيم والإيماء، والتعريض، التلويح، الكناية، التمثيل، الرمز، اللمحة، اللغز، التعمية، الحذف، التورية. ولغة الإشارة كأي لغة أخرى يجب أن تكون معروفة بين المتحدثين والمستمع، فلكثرة كنايات أبو تمام سأله أحدهم لم لا تقول ما يفهم؟ فأجاب الشاعر في اعتداد ولم لا تفهم ما يقال؟. الرمز: جاء في معاجم اللغة، أن الرمز: تصويت خفي باللسان كالهمس، والرمز. والرمز: الصوت الخفي، والغمز بالحاجب، والإشارة بالشقة، ويُعبر عن كل إشارة بالرمز. ولم ترد كلمة الرمز في القران الكريم إلاّ مرة واحدة في الآية: "قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار" (آل عمران: 41) وفي الآية دليل على أن الرمز هو الإشارة، والإشارة هي بمنزلة الكلام". والرمزية العربية تعتمد على مبدأين هما: الايجاز والتعبير غير المباشر. ومن أمثلة الرمز ابيات الشاعر الذي وقع اسيراً بأيدي بني تميم والتي ارسلها الى قومه يحذرهم من الغزو وينصحهم أن يرحلوا عن الصحراء ويركبوا الجبل فقال: خلوا عن الناقة الحمراء أرحلكم والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا إن الذئاب قد إخضرّت براثنها والناس كلهم بكر إذا شبعوا اراد بالناقة الحمراء: الفلاة، وبالجمل الأصهب: الجبل، وبالذئاب الاعداء. يقول ان أعدائكم بني تميم قد اخضرت أقدامهم من المشي في الكلأ والخصب والناس كلهم إذا شبعوا طلبوا الغزو، فصاروا عدوا لكم كما ان قبيلة بكر بن وائل عدوكم. الإشارة: أحد فروع الرمز. الإشارة: الإيماء، الإشارة: التلويح بشيء يفهم منه المراد. وهي: تعيين الشيءِ باليد ونحوها. والإشارة لم ترد في كتاب الله غير مرة واحدة، على لسان مريم عليها السلام، ترد عنها ما اتهمت بهفي ولدها عيسى عليه السلام: "فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً" (مريم: 29) وعلى هذا يقتصر معني الرمز على الإشارة، بمعان مختلفة وأساليب متنوعة. والرمز ليس أصلاً في المعني، بل هو فرع صغير من الإشارة التي هي من أصل الدلالات الخفية. التلويح: لوَّح بالشَّيء في كلامه: لمَّح، أشار إشارات خفيَّة، التَّلْويحُ بِاليَدِ: الإِشارَةُ بِها، والتلويح: نوعٌ من الكناية مثل: كثير الرَّماد، أي كريم مضياف. ومن أمثلة التلويح، قول قيس بن الملوح: لقد كنت أعلو حي ليلي فلم يزل بي النقض والإبرام حتى علانيا. فلوح بالصحة والكتمان ثم بالسقم والاشتهار تلويحاً عجيباً، وإياه قصد أبو الطيب بعد أن قلب المعني رأساً على عقب، أو ظهراً لبطن: كتمت حبك حتى منك تكرمة ثم استوي فيك إسراري وإعلاني. الكناية: هي ذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له أو هي كل لفظة دلت على معني يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز. فمن الكنايات قولهم لمن مات: لعق فلان إصبعه، أو استوفى أكله، أو اختاره الله. كما قالوا لمن لدغته الحية: سليم، وللصحراء المخوفة المهلكة: مفازة. ومن ذلك تكنية الموت بـ أبي يحي انطلاقاً من مبدأ التفاؤل الذي جعلوا اللغة وسيلة لإشاعته، وتكنية الاسم الآخر للموت وهو المنية بـ أم البلبل، وأم قشعم. وفي الكنية تفاؤل، ولكن الأخرى صريحة في تبشيع المنية. ومن كُناهم عن الأمراض: أم ملدم للحمى، من اللدم، وهو ضرب الوجه والصدر بشيء له وقع. ويكنون الحمى أيضاً: أم عافية، وبنت المنية لأنها بريد الموت. ومن الكنى الأخرى المتعلقة بالجسد أو النفس: أبو راحة للنوم، وأبو وحيد للقلق، وفي الكنية الأولى وصف للنوم، ولكن فيه إيحاء بأهميته للجسد، كما أن في كنية القلق بأبي وحيد ما يدل على فهم بعض أسبابه. وقد تستغني الكنايات عن اللفظ جملة من ذلك ما رواه الجاحظ في كتابه البيان والتبين: من أن رجلاً علم بخبر أعدائه غير أنهم أخذوا عليه عهداً ألا يتكلم فلما طلب منه قومه الكلام، لم يُرجع لهم جواباً حين سألوه أن يقول، ورمي بصرتين في أحدهما شوك وفي الأخرى تراب، فقال أحد القوم:"هذا رجل مأخوذ عليه ألا يتكلم، وهو ينذركم عددا وشوكاً". المعاريض: التعريض: هو ما يُفهم من عرض اللفظ لا من دلالته عليه حقيقة ولا مجازا. والمعاريض: ما عرض به ولم يصرح بكلام يشبه بعضه بعضاً في المعاني، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في المعاريض مشهور، فقد قال صلوات الله عليه وسلامه: "إن في المعاريض مندوحة عن الكذب". والمعاريض: جمع المعراض. يقال: عرفت ذلك في معراض كلامه، أي في فحواه. والتعريض ضد التصريح ، وهو أن يلغز كلامه عن الظاهر، فكلامه معرض. ومن حكايات المعاريض ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم، التقي بطلائع المشركين في نفر من أصحابه فقالوا ممن أنتم؟ قالوا: من ماء، فتركوهم. وقولهم هذا تعريض بقوله تعالي: "فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق" (الطارق: 5 و6) الملاحن (المغالطات- التورية): المغالطة (الملاحنة): يراد بها شيئان أحدهما دلالة اللفظ على معنيين بالاشتراك الوضعي والآخر دلالة اللفظ على المعنى ونقيضه. وهي أن تورى بلفظ عن لفظ. فالتورية هي هذا الكلام الذي يسمعه السامع فيفهم أن معناه يتعلق بما هو فيه وأنه هو المقصود بالكلام على الرغم من أن المتكلم يقصد شيء آخر. والملاحن من التورية. والتورية لا تصدر إلاّ عن اناس ظرفاء حيث أن من الظرف التورية، كقول الصديق يوسف لأخوته: "إذ أخرجني من السجن" (يوسف: 100) ولم يذكر الجب لئلا يستحى إخوته. اللغز: اللغز: ما يعمي من الكلام. لغز الشيء يلغزه لغزا: مال به عن وجهه، ولغز في كلامه: عماه ولم يبينه، ولاغزه: كلمه على طريق اللغز، والغز في كلامه: عمى مراده واتى به مشتبها. واللغز هو الفخ المحير لعقول الأذكياء والنبهاء فهو الوسيلة العقلية للتباري منذ القدم، ففي استخدام العقل البشرى للتفكير قدرات هائلة على تفجير الثقافة والإبداع لديه. واللغز والأحجية شيء واحد: وهو كل معنى يستخرج بالحدس والحزر لا بدلالة اللفظ عليه حقيقة ولا مجاز ويفهم من عرضه لأن قول القائل في الضرس: وصاحبٍ لا أَمل الدهر صحبته يَشقى لنَفعي ويسعى سعي مجتهِد مَا إِنْ رَأَيت لَه شخصاً فمذ وَقعت عينِي علَيهِ افترقنا فرقة الأَبد. لا يدل على أنه الضرس لا من طريق الحقيقة ولا من طريق المجاز ولا من طريق المفهوم وإنما هو شيء يحدس ويحزر. واللغز أو المسألة كلام نظري أخفي المراد منه على السامع وأضمر معناه. فهو بحاجة لجهد عقلي للوصول إلى مبتغاه والقصد منه اختبار قدرة هذا السامع على حل هذا الإشكال ذهنيًا. واللغز والأحجية والمعمى أنواع فمنه: المصحف (التصحيف أن يؤتى بلفظين في صورة الأحرف ويختلفان في النقط) ومنه المعكوس. ختاماً: في عصر تكنولوجيا المعلومات أصبحت كلمات السر- التي هي التطور الطبيعي للرمز والشفرة- جزءاً من نسيج حياتنا اليومية. فقد أصبحت كلمات السرّ بمنزلة طقس يومي. خصوصاً وأن استخدام كلمات السرّ أصبح من الممارسات العالمية فالكل تقريباً يتواجه يومياً مع أحد الأجهزة الإلكترونية التي تتطلب تسجيل الدخول إن كانت للتحويلات المالية أو الخدمات المصرفية أو البريد الإلكتروني أو بطاقات الاتصال أو غيرها مما يؤكد على أهمية هذا الطقس اليومي في حياتنا المعاصرة.