في دراسة صادرة عن «مركز البحوث والتواصل المعرفي»..

العبدالفتاح «تضيء» مناطق «مظلمة» من «الاستعراب الروسي».

صدرت الطبعة الثانية من كتاب «إضاءات على الاستعراب الروسي» عن مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض، للكاتبة الدكتورة فاطمة حسن العبدالفتاح، وهو كتاب مهم ومرجعي في مجاله، وقد سبق كثيرًا من الكتابات المنتشرة حاليًا عن الاستعراب الروسي، واستفاد منه بعضها بصورة واضحة، إذ صدرت الطبعة الأولى منه قبل نحو ربع قرن (2001م)، وتوالت بعد ذلك البحوث والإصدارات التي تناولت الشأن نفسه، خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن الواحد والعشرين. وبين يدي هذا العرض السريع للكتاب أودّ أن أقدّم مقاربة أو خلاصة فكريّة لما يمكن أن يستخرجه القارئ العربي من صفحات هذا الكتاب، والذي أراه أنه يُمثّل محاولة رصينة ونادرة لإضاءة مناطق مظلمة أو غامضة في مجال الاستعراب الروسي، ولإعادة تعريف العلاقة بين الشرق الإسلامي و»الآخر» الباحث من خارج الدائرة الثقافية الإسلامية. لكن ما يميّز هذه الدراسة ليس فقط التوثيق الدقيق لتجربة الاستعراب الروسي، بل الطابع الذي يُبرِز التباين العميق بينه وبين ما رسّخه الاستشراق الغربي الحديث، لا سيما منذ الحملة النابليونية على مصر. فإذا كان الاستشراق الغربي، كما صوّره إدوارد سعيد، قد نشأ في أحضان المشروع الاستعماري الأوربي، وعمل على إعادة إنتاج الشرق بوصفه فضاءً للضعف واللاعقلانية والانبهار الطفولي بالميتافيزيقا، فإن الاستعراب الروسي، كما تبيّن من دراسة الدكتورة العبدالفتاح، نشأ في سياق حضاري مغاير، وبدوافع غالبًا ما كانت معرفية، أو أدبية، أو روحية. وفي حين عمل المستشرقون الغربيون على تطويع النصوص الإسلامية لتناسب ثنائية السيطرة والتمثيل، غالبًا عبر تفكيك اللغة وتبسيط المعنى وتشويه البنية، فإن المستعربين الروس، كما تظهر المؤلفة عبر بورتريهات دقيقة، سلكوا طريق الإنصات لا التفكيك، والمحاورة لا الهيمنة. يكشف الكتاب عن أن المستعربين الروس لم يكونوا مجرد ناقلين للمعرفة الشرقية إلى الدوائر العلمية في بلادهم، بل كانوا وسطاء حضاريين نادرين. ولم يُعاملوا النص الإسلامي (خصوصًا القرآن) بوصفه «عُقدة» في وجه ثقافتهم وحضارتهم، رغم أنهم آتون من خلفيات أرثوذكسية يُفترض أنها أشدّ تمسّكًا بالنصوص الإنجيلية، بل تعاملوا مع التراث الإسلامي كله، بنصوصه المقدسة، بوصفه مفتاحًا لرؤية كونية بديلة، متماسكة، تستحق الفهم من الداخل. ويتجلى هذا بوضوح في تحليل الكاتبة لأعمال كراتشكوفسكي، الذي لم يكتف بفهم اللغة العربية، بل عشقها، وتماهى مع إيقاعها، واحترم منطقها الداخلي. في المقابل، يكشف المسح، الذي أجرَتْه الكاتبة، أن الاستعراب الروسي، على الرغم من وقوع بعض رموزه تحت تأثير السياسات الأيديولوجية (خصوصًا في الحقبة السوفييتية)، لم يتحوّل إلى أداة عدائية ضد الإسلام، كما فعل كثير من مخرجات الاستشراق الغربي، التي كان همّها، في كثير من الأحيان، أن تربط بين الإسلام والتخلّف أو الغرائبية، من خلال تضخيم وتعميم النماذج السلبية النادرة أو التي تفشّت وتكاثرت في عصور الانحطاط. وقد سلك الروس في استعرابهم دربًا مغايرًا، بل إن بعضهم سعوا إلى فهم الحركات الإسلامية من داخل بنيتها الخطابية والفكرية، وتقويمها وفقًا لمرجعيتها الإسلامية وبناءً عليها، لا من خلال قوالب أمنية أو نماذج ثقافية غربية جاهزة. تكمن قيمة هذا الكتاب في أنه يبني تدريجيًا أطروحة معرفية مفادها: أن فهم الإسلام لا يتطلب بالضرورة الانتماء العقائدي، لكنه يتطلب بالضرورة احترام اللغة، والوعي بالسياق، وتواضع الباحث أمام النص، وهو ما افتقدَه كثير من المستشرقين الغربيين، وحقّقه المستعربون الروس بدرجات متفاوتة من العمق. وتقدم الكاتبة في مقدمة هذه الطبعة (الثانية) مراجعة هادئة وواعية لتجربة الكتاب الممتدة من صدوره الأول حتى طبعته الجديدة، وتُبرز أهمية المراجعة المعرفية في ضوء التحولات الجيوسياسية التي طرأت على علاقة العالم العربي بروسيا. ويظهر فيها صوت تأملي أكثر نضجًا، يتجاوز الدفاع الخطابي إلى تأصيل معرفي للفارق بين الاستعراب الروسي ومشاريع الهيمنة الثقافية الغربية. تتبع ذلك، بحسب ترتيب الفهرس، مقدمة الطبعة الأولى، التي تُعَد بيانًا تأسيسيًا للموقف الفكري الذي يتبناه الكتاب. والمؤلفة هنا لا تدخل إلى موضوعها مباشرة، بل تبدأ برسم خريطة وجدانية وفكرية لعلاقتها بروسيا وبالاستشراق، موضحةً كيف تشكّلت الرغبة في فهم الآخر غير الغربي (الروسي) الذي ينظر إلى الإسلام دون عداء صليبي، غالبًا. وتجمع هذه المقدمة بين النزعة الشخصية والسردية، وبين الطرح التحليلي، وهذا مما يجعلها مقدمة ذات طابع استهلالي ثقافي شامل، لا مجرد مدخل أكاديمي جامد. وفي مدخل يدور حول مفهوم الاستشراق، تتناول الدكتورة فاطمة الجذور التكوينية لخطاب الاستشراق، خصوصًا علاقته بالاستعمار والتبشير. وتربط الكاتبة بين الحروب الصليبية والنظرة الثقافية اللغوية للعرب، وتُظهِر أن الغرب أسّس صورة العربي بوصفه «الآخر الأدنى» منذ قرون، ثم تماهت هذه الصورة داخل المؤسسة المعرفية الحديثة. وهذا الطرح، كما هو واضح، متأثر بنقد إدوارد سعيد، لكنه لا يكرر مقولاته حرفيًا، وإنما يدمجها ضمن وعي نقدي أكثر تحسسًا للقضايا الإسلامية اللغوية. وفي الفصل الأول الدائر حول الموضوع الأساسي للكتاب (الاستعراب الروسي) تسرد المؤلفة تطور الاستعراب في روسيا القيصرية، مبيّنة أنه لم يكن استنساخًا للاستشراق الفرنسي أو البريطاني، كما قدّمنا آنفًا، بل نشأ من دوافع ثقافية وأدبية وروحية، لا تُهمل البُعد السياسي، لكنها تُفصله بوضوح عن الحافز المعرفي الذي ميّز الجيل الأول من المستعربين الروس. وتحدد الكاتبة للاستعراب الروسي ثلاثة دوافع رئيسة، هي: الفضول العلمي غير الاستعماري، والرغبة الدينية الأرثوذكسية في فهم الإسلام، والتأثر بالشرق بوصفه فضاءً ثقافيًا خصبًا وموازِنًا للإمبريالية الأوربية، وتُبرز أن المستعربين الروس لم يعتمدوا على النقل الأوربي، بل تواصلوا مع نصوص عربية أصلية، كما زار كثير منهم العالم الإسلامي وتعلموا العربية مباشرة، وهذا ما منحهم تفوّقًا نوعيًا في الفهم. ويقسم الكتاب الاستعراب الروسي إلى مدرستين رئيستين (بطرسبرغ، وموسكو)، ويُبيّن الفروق بينهما، خصوصًا في التعامل مع النص القرآني، اللغة، والفكر الإسلامي الحديث، كما يرصد الجهود الروسية المبذولة في التبادل الثقافي الحقيقي مع العالم العربي، من خلال الترجمات والبعثات والمؤتمرات، مع تأكيد أن هذا لم يكن «تصدير معرفة»، بل مسعى متبادلًا للفهم العميق. وتحت عنوان «بوشكين والأثر الشرقي الإسلامي» نلتقي بتحليل لافت للجانب الأدبي في العلاقة بين روسيا والإسلام. وترى المؤلفة، بحسب قراءة خاصة بها، أن بوشكين لم يكن شاعرًا قوميًّا صرفًا، بل حمَل في شِعره صدى الشرق المسلم، سواء من حيث الصور أو الرؤى أو حتى الموقف من الإنسان، وهذا جزء من الكتاب غني بالنصوص والاستشهادات والنماذج التحليلية. ينتقل القارئ بعد ذلك إلى الفصل الثاني من كتاب «إضاءات على الاستعراب الروسي»، متناولًا ما يشبه سيرة خاصة عن استعراب كراتشكوفسكي وعلاقته بالشرق الإسلامي. وهنا تستعرض المؤلفة تفاصيل زيارات كراتشكوفسكي إلى العالم العربي، مؤكّدة أن تجربته ليست أكاديمية فقط، بل وجدانية ثقافية؛ إذ عاش كراتشكوفسكي بين العرب، وتأثّر بنمط حياتهم، وذلك ما جعله أكثر قدرة على تمثّل روح النص العربي. وتوضح الكاتبة أن كراتشكوفسكي عالِمٌ فريد من نوعه، وهو في الحقيقة ذروة سنام الاستعراب الروسي، ومن أبرز ما أنتجه: ترجمات دقيقة للقرآن، ودراسات عن الجغرافيا الإسلامية، وفهرسة مخطوطات عربية نادرة. وتقرأ الدكتورة فاطمة أعماله نقديًا، وتُظهر كيف حافظ على التوازن بين الدقّة العلمية والانفتاح الروحي. ثم تنتقل المؤلفة في فصل مستقل بعد ذلك إلى علاقة كراتشكوفسكي بالمخطوطات العربية، حيث لم يكن يعامل المخطوطة بوصفها مجرد أثر تاريخي، بل رأى فيها نصًا حيًّا ينبغي إنقاذه وإحياؤه. وكان يوقّر الخط العربي، ويعدّ التراث الإسلامي طاقة إبداعية لا تزال قابلة للفهم والتأويل. وهنا تقدم الكاتبة وصفًا دقيقًا لبعض المكتبات التي عمل فيها كراتشكوفسكي، مثل مكتبات إسطنبول ودمشق والقاهرة، وتُظهر كيف قارن بينها، وما انتقَدَه من طرائق الحفظ والفهرسة فيها. وفيما يتعلق بالمخطوطات العربية في المكتبة القيصرية في بطرسبرغ، يقدّم لنا الكتاب عرضًا مُهِمًّا يُبيّن كيف تعامل الروس مع كنوز التراث الإسلامي، خصوصًا المخطوطات المحفوظة في المكتبة القيصرية، ويُبرز حجم الجهد الروسي في حمايتها ودراستها. وتمرّ بنا الكاتبة على وصف كراتشكوفسكي لعدد من المخطوطات، مع تحليلاته للأسلوب والخط واللغة، وتُظهِر كيف جمَع بين الحس الأدبي والدقة اللغوية. ثم بعد ذلك ترصد العبدالفتاح، تحت عنوان «التعاون العلمي بين المستعربين الروس والعلماء العرب»، لحظات التفاعل بين الروس والعرب، مثل مراسلات العلماء، والزيارات المتبادلة، والمشاركة في المؤتمرات؛ وهذا يُبرز أن العلاقة لم تكن استعلائية بل تبادلية معرفية. لتختتم الفصل بمبحث حول «نظرة كراتشكوفسكي إلى الشرق المسلم»، وهنا تبيّن أن الرجل رأى الشرق المسلم لا كماضٍ ميت، بل كمصدر روحي وفكري حي. وتعاطَفَ مع المسلمين، واحترَم القرآن والحديث، وانتقَد الاستشراق الغربي من الداخل. الفصل الرابع يتضمن عددًا من الحوارات مع مستعربين روسيين، أولها لقاء أولغا باريسوفنا فرولوفا، الذي نجِد فيه نقلًا مباشرًا لصوت مستعربة روسية معاصرة، تُفصح عن تصورها للإسلام بوصفه منظومة روحية وثقافية، وتُبدي احترامًا واضحًا للغة العربية، وتُبرز قلقها من تحوّل الإسلام إلى قضية سياسية فقط في الخطاب الغربي. وفي لقاء المستعرب بلوندين نقرأ حوارًا يعكس الحس الأكاديمي التقليدي، مع نزعة فلسفية في التفكير في التراث بوصفه حقلًا للمعنى المفتوح، ويُظهِر سعة الأفق الروسي تجاه الإسلام. أما لقاء المستعرب البروفيسور ميخائيل بتروفسكي، فهو حديث مع مدير متحف الإرميتاج ومفكر بارز، يتحدّث فيه عن الإسلام بوصفه أحد مكونات الذاكرة الروسية، ويؤكد أن فهم الدين في روسيا لا ينفصل عن فهم الإنسان الروسي. يذهب بنا الكتاب بعد ذلك إلى لقاءات وحوارات المستعربين في معهد الاستشراق بسانت بطرسبرغ، وفيها عرضٌ لأجواء الحوار العلمي داخل أشهر مؤسسة بحثية روسية في ميدان الاستعراب. وتبدي الكاتبة انطباعاتها عن تفاعل المستعربين مع قضايا العرب، وتُظهِر أنهم لا ينقلون موقف حكومتهم بالضرورة، بل يمثلون خطابًا معرفيًا مستقلًا غالبًا. إن لغة كتاب «إضاءات على الاستعراب الروسي» تتّسم بالحيوية والسلاسة، وتجمع بين التحليل العلمي والتفاعل الإنساني، وعلى رغم أن ترتيب الفصول فيه شابَهُ بعض التداخل فإن قيمتِه العلمية وسبْقَه البحثي لا يخفى على القارئ المتخصص، ويمكن أن يقال في أسلوب المؤلفة إنه ليس أسلوب دراسة جافة، بل خطاب معرفي ضمن مشروع تواصلي حضاري بين العرب وروسيا، وقد نجحت الدكتورة فاطمة العبدالفتاح، من خلال ربط المستعربين الروس بسياقاتهم السياسية والفكرية والدينية، في تقديم صورة مغايرة تمامًا لما اعتدناه في دراسات الاستشراق الغربية. لكنّ ثمة سؤالًا حول النزعة المثالية في الكتاب، وهو: هل سعت الكاتبة إلى تقديم الاستعراب الروسي كمشروع معرفي إنساني خالٍ من شوائب الدوافع الإمبراطورية والسياسية؟ والذي يميل إليه القارئ هو أن الدكتورة فاطمة لم تهدف إلى تصوير الاستعراب الروسي بوصفه مشروعًا طوباويًا خالصًا، ولا حاولت أن تنفي عنه كل شوائب السياسة، لكنها رسمت، عبر عرض دقيق ومنهجي، حدودًا معرفية تميّز هذا التقليد الروسي من مثيله الغربي، الذي لطالما اختلط فيه التمثيل بالهيمنة، والعلم بالقوة، والملاحظة بالتشييء. وقد نجحَت المؤلفة في إخراج اللوحة النهائية لهذا الكتاب عبر خطّين متوازيين: الأول منهما توثيقي يلاحق المخطوطات والبعثات والترجمات والمؤسسات. والخط الثاني تأويلي تأمليّ، يسائل المواقف، ويعيد تأطير العلاقات بين المسلمين والروس، على ضوء تحولات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين.