
ينطلق هذا الاستطلاع من سؤال محوري: هل التعليم محصور داخل الجدران، أم أن الحياة نفسها يمكن أن تكون مصدرًا لا ينضب للتعلّم؟ من خلال تجارب شخصية وأصوات متنوعة، نستعرض نماذج واقعية لأشخاص تجاوزوا الشكل التقليدي للتعليم، وصنعوا مساراتهم المعرفية والمهنية بالإرادة والاحتكاك بالحياة. المدرسة ليست كل شيء، والتعليم لا يقف عند مرحلة أو سنٍّ معين. فحتى لو حصل المرء على أعلى الشهادات، لن يحقق كل الطموحات، ولن يبلغ غاية الكمال دون أن يكون لديه إدراك بقيمة مواصلة التحصيل، وبراعة الالتقاط من الحياة. فالحياة هي المدرسة الحقيقية، ومن يفتح بصره وبصيرته، ويتحلّى بالتواضع مهما بلغ من العلم، تشرع أمامه أبواب المعرفة باستمرار، ويرتقي سُلّم المجد والخلود. واليوم، ونحن نفكر في هذا الاستطلاع، لا نسعى فقط لتخليد من رحل عنا، بل لنذكّر جيل اليوم أن الطموح والمعرفة والإصرار هي أساس تقدم أي مجتمع، وأن الشهادة لا ينبغي أن تكون نهاية الطموح، بل بدايته. فيما يشبه الخاتمة د. إبراهيم بن عبدالرحمن التركي* في الحياة أصل وظل، وفي الأحياءِ قادرُ بنفسه وعابرُ بغيره، والأدوارُ لا تقف في محطةٍ، والأعمارُ لا تتعثر بمرحلةٍ، والشيوخ يحتاجون من يسندُ رمزيتهم، والشبابُ يأنسون بمن يعتني بهم، وهنا تتجلى الأستذةُ الحقيقية، والوفاءُ الجميل، وفي التأريخ يتكرر أنموذجا جلال الدين الرومي وشيخه شمس التبريزي، وفي أزمنة سبقت وأخرى لحقت حكايات أخرى فمحمد حسنين هيكل لم يبرز لولا جمال عبد الناصر، وربما شقي الأمينان على ومصطفى لانتمائهما المختلف، ولا شك أن وجود الأستاذ محمد القشعمي في مقام الابن للأستاذ عبد الكريم الجهيمان قد خدمهما معُا، ومثلهما الشيخ محمد العبودي والدكتور محمد المشوح، والظن أن علاقة الأستاذ عبد الله الجفري بشيخه محمد حسين زيدان صبت في مصلحتيهما ومصلحة الثقافة أيضًا، ومن ثم فهي ظاهرة مضيئة إذا سلمت من الاستنساخ والتبعية القطيعية، وعدت الإبداع نتاجًا فرديا يؤازره الجميع ، والتميز مشاركة واعية يسير في مدارها الشداة والأجيال تحتاج إلى أعلامها كي لا تبقى دون رايات ولتخلدها الروايات *كاتب ومؤلف ومدير تحرير سابق . المُعلم وصناعة الفنان د. ياسمين الفراج* قسم الفيلسوف اليوناني أرسطو العلوم إلى ثلاثة أنواع: علوم نظرية مثل الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا وغيرهم، وعلوم تطبيقية وهي التي تسمح لنا بالإبتكار في جميع المجالات، وعلوم عملية وهي التي يمارسها الإنسان وهي التي تمدنا بأساليب السلوك مثل الأخلاق والسياسة. والعلوم العملية هي التي صنعت كبار الفنانين عبر تاريخ الفن في العالم ، ويقع اختياري هنا على تجربة مصرية صميمة في صناعة الفنان وهي تجربة الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ، فقد كان لقائهما صدفة ومنذُ ذلك الوقت تغيرت حياة محمد عبد الوهاب كلياً فقد تبناه شاعر الملوك حتى أصبح محمد عبد الوهاب نسخة من أستاذه. نستخلص من لقاء أحمد شوقي ومحمد عبد الوهاب، أن التعليم ليس تلقيناً لمعلومات وإنما هو صناعة شخصية، فقد منع أحمد شوقي بما له من علاقات برجال الدولة محمد عبد الوهاب من ممارسة الغناء لحمايته في سن الطفولة، لمنعه من مخاطر عدة لم تكن تدركها عقلية الطفل. وهو الذي يمنح الفرص أيضاً فهذا الذي سبق ومنع هو الذي منح الفرصة الذهبية لمحمد عبد الوهاب للدخول من بوابة الكبار عندما أدرك المعلم بأن الوقت مناسباً لإطلاق هذه الموهبة ، وخلال رحلتهما معاً تعلم عبد الوهاب على يد أحمد شوقي قراءة الأشعار ومعرفة معاني الكلمات غامضة المعنى عليه ، فن التعامل مع البشر باختلاف طبقاتهم وثقافاتهم، فقد كان شوقي معلماً مؤمناً بموهبة ومهارات تلميذه ، وفي نفس الوقت كان محمد عبد الوهاب تلميذاً نجيباً استجاب لدروس معلمه العملية وأصبح علامة في تاريخ الفن العربي. *أستاذ النقد الموسيقى ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي في المعهد العالي لفنون الطفل مكتبة أبي جعلت العالم ملك يدي محمد محمد مستجاب* ربما أكون من المحظوظين الذي نشأ في بيت أديب، وأبي الكاتب الراحل “ محمد مستجاب” ليس أديبا فقط، بل هو مدرسة كبيرة استطاع أن يمد لي يديه- رغم اختلافاتنا الكثيرة- لأرى حياة أخري غير الحياة بين الكتب وكراسات المدرسة، لقد تعلمت في تلك المدرسة كيف اشتري الكتاب وكيف أقرأ الجريدة، وكيف أشاهد لوحة أو استمتع بزيارة متحف أو منطقة أثرية، كما أنني تعلمت من أبي مثلا كيفية رؤية “ تتر فيلم سينمائي” او تليفزيوني، وكيف أن فنان المونتاج استطاع في لقطاته السينمائية أن يعبر عن أزمة البطل، ولا أنسي مثلا هنا عندما كنت أريد الكتابة للسينما انه نبهني وأعطاني كتب لدراسة السيناريو وهي من مكتبته، فمن خلال مكتبة أبي شاهدت العالم أو بمعني أدق أصبح العالم ملك يدي، ولا انسي فضلها وكيف اطور تلك المكتبة وانميها واضع فيها الكتب النفيسة في كل المجالات، وليس أن تكون الكتب في مجال الادب فقط. في الحقيقة فأنا مدين بكل شيء في حياتي لمدرسة أبي، وإذا كانت مدرسة أبي وصالونه الأسبوعي قد اخرج الكثير من الأدباء والشعراء والفنانين، فانا أنتمي لتلك المدرسة، مدرسة دون جدران، لكنها مدرسة عالمية لفهم البشر وكيفية التعبير عنهم، مدرسة لقراءة الآخر سواء إنسان أو حضارة أو فكرة مضادة، مدرسة للإنسانية وهي التي تساعدني لرؤية رسائل الله لي كل فترة وهو شيء لن أستطيع تعلمه في فصل مدرسة أو مدرج جامعة. *قاص وروائي مدرسة تجعل الحياة منهجًا د. رسمية الرباني* قد لا تكون المدرسة هي المصدر الوحيد للعلم، ولا الفصل هو المساحة الوحيدة للتعلُّم، فالحياة ذاتها تمضي بنا في مسالك التعليم، وتفتح لنا أبوابًا لا تعرف القيود ولا الجدران. وفي زمنٍ تزداد فيه الحاجة لإعادة تعريف مفاهيم التعلُّم، تبرز أمامنا نماذج واقعية تؤكّد أن الإنسان يمكن أن يتعلّم أعظم الدروس خارج أسوار المدارس، وفي كنف الحياة وتقلّباتها، ومن خلال علاقات إنسانية وتجارب شخصية خالدة كانت بمثابة “مدارس متنقلة” في مسيرة أصحابها. من أبرز هذه النماذج وأكثرها إلهامًا، تجربة الأديب الكبير ميخائيل نعيمة، الذي لم تقتصر معارفه وثقافته على ما تلقاه في المدارس، بل كانت الحياة، والهجرة، والاطلاع الواسع، والتفاعل مع ثقافات متعددة، هي المدرسة الحقيقية التي شكّلت وعيه ورؤيته.. تجربة ميخائيل نعيمة تؤكد أن المدرسة ليست دائمًا بين أربعة جدران، بل قد تكون الرحلة في الحياة، والمعاناة، والقراءة الحرة، والمخالطة العميقة للناس والثقافات. كم من إنسانٍ لم يُتح له أن يجلس يومًا على مقعد دراسي، لكنه صنع لنفسه مسارًا علميًا أو أدبيًا أو مهنيًا فاق به أصحاب الشهادات؟ وكم من شابٍ تعلّم من حِكم آبائه أو من طبيعة الحياة البسيطة في قريته، ما صقل شخصيته ومهاراته وأكسبه الحكمة؟ هؤلاء هم خرّيجو “مدرسة بلا جدران”، المدرسة التي لا تعترف بالعمر ولا بالمنهج الموحّد، بل تفتح أبوابها لكل من يمتلك الرغبة في التعلّم والنمو. نحن بحاجة اليوم لإعادة الاعتبار لهذا المفهوم، وتنبيه العامة –وخاصة الشباب– أن التعلُّم لا يجب أن يتوقف بانتهاء المرحلة الدراسية، وأن الفرص الحقيقية لا تكون فقط داخل الصفوف، بل خارجها؛ في الشارع، في السوق، في الورش، في التعامل مع الناس، في القراءة، في السفر، وفي الاستماع إلى تجارب الآخرين. “مدرسة بلا جدران” ليست بديلًا عن التعليم النظامي، بل هي امتداد له، وتعميق لأثره. إنها المدرسة التي تجعل من الحياة نفسها منهجًا، ومن كل لحظة فرصة للفهم والتأمل. ومتى ما آمن الإنسان بهذا المفهوم، أصبح التعلُّم عنده عادة لا تنتهي، واكتساب الخبرة مسارًا دائمًا، وتحوّلت حياته كلها إلى رحلة من النضج والإبداع. متخصصة في سيكولوجية النفس الإنسانية.* خارج الأسوار غادة الصنهاجي* تزامن تطور الحضارات مع تأسيس مدارس لتبادل الأفكار ومناقشتها، تحوّلت مع مرور الوقت إلى مراكز معرفة ذات مناهج تعليمية متطورة تواكب تقدّم العلوم والتكنولوجيا وتمدّ المتعلّم بالمهارات في جلّ المجالات، وبالتالي لا يمكن اجحاد فضل هذه المدارس فيما وصلت إليه المجتمعات من تقدّم ورخاء. ومع كل هذا لا يمكن الحديث عن هذا الفضل بالمطلق، فعلى نفس الأرض هناك أشخاص لم يعرفوا إلى هذه المدارس سبيلا، وحالت بينهم وبينها ظروف مختلفة، ومع ذلك أسدوا للبشرية ما عجز عنه الذين ظفروا بعلومها، ولقد تمكّنوا بعيدا عنها من صنع أمجادٍ فردية جادت على غيرهم بنفع عظيم. المدرسة لا تعلمنا إلا جزءا يسيرا مما نحتاجه في حيواتنا، وأهم ما عرفناه خلال عيشنا كان بفضل من عايشناهم وحكمت علينا الأقدار بلقائهم وجمعتنا بهم الصدف أو المصالح، وخرجنا من أمامهم مرات خائبين ومرات ظافرين، لكننا صقلنا بفضلهم شخصياتنا وتغيّرت بسببهم مصائرنا. لهذا أرغب في القول، إن خارج أسوار المدرسة هناك بالضرورة مدرسة أخرى مختلفة، وبأن التعلم في الهواء الطلق حتما يوفر لصاحبه متعا ومنافع تتباين باختلاف المناخ السائد فيها. وحسب المقولة الشائعة “من خالط العطار نال من طيبه، ومن خالط الحداد نال السوائد” فإن أغلب الذين تعلموا من غيرهم وأفلحوا ولمعت أسماؤهم كان هذا الغير لزوما لهم خير قدوة، ووجدوا فيه نعم السند، وقدّم لهم أحسن ما عنده ولم يبخل عليهم بشيء من معارفه ومهاراته، وكان لهم بمثابة المدرب العبقري الذي يقود فريقه نحو البطولات والكؤوس فيغدو الفخر للمدرب المعلّم والمجد للفريق المتعلّم *كاتبة وقاصة مغربية