الثقافة العربية تغمر مدينة النور.

تسكن الروح الشرقية أزقّة مدينة باريس منذ أكثر من قرنين، حيث تأثّر مُهندسوها بمعمارية المُدن العربية وحضارة شٌعوبها منذ الحملة الفرنسية على إفريقيا وآسيا، ثم أضفى المُهاجرون العرب لمستهم على الحياة الباريسية على مدى ثلاثة أجيال. لقد أصبحت أحياءً مثل «باربيس» و»منيل مونتو» مناطق شعبية مغاربية، فيما تبعث مقاهي ساحة «سان ميشيل» و»مونبرناس» رائحة «خان الخليلي» بالقاهرة و»الحميدية» بدمشق. وقد غيّرت الأجيال المُتلاحقة من المُهاجرين العرب الحياة في باريس، خاصّةً الوافدين من المغرب الكبير والمشرق العربي، الذين قدِموا كعُمّال في المصانع والموانيء منذ بداية القرن العشرين، وحملوا معهم حِرَفهم وتقاليدهم، لتصبح هذه الجاليات جُزءاً من النسيج الاجتماعي والثقافي الفرنسي، وهكذا تحوّلت العاصمة الفرنسية إلى فُسيفساء من الحضارات الشرقية، حيث يُمكنك أن ترى أحياءً بأكملها تشبه مُدن «مراكش» و»وهران» و»القيروان» و»القاهرة و»بيروت». وتتزيّن بعض ميادين باريس ومتاحفها بالتماثيل الفينيقية والآثار الفرعونية، مثل المسلّة العملاقة في ساحة «الكونكورد» المؤديّة إلى شارع «الشانزليزيه» الشهير، حيث تم وضعها في حفل ضخم عام 1857، أما في ساحة «سان ميشيل» فتعلو النافورة المُسمّاة بحنفية «النصر» أربعة تماثيل تُجسّد «طائر الفينيق»، وهي تُخلّد انتصارات الامبراطور «نابليون بونابارت» خلال حملته على مصر، وهذا ما يُفسّر وجود عددٍ كبير من الشوارع التي تحمل أسماء مُدن مصرية، كشارع الإسكندرية ودمياط وأبو الخير؛ الذي تتوسّط واجهته شُرُفات ذات طراز فاطمي، تُحيط بها تماثيل «حتحور» الفرعونية. كما توجد لمسة الهندسة الأندلسية في أكثر من عمارة باريسية، تُزيّنها الأبواب ذات الخشب المُزخرف والنوافذ النصف دائرية والزليج الموريسكي، ويستلف مسجد باريس ملامح بيوت «فاس» و»تلمسان». وتشبه المدرسة الوطنية للإدارة أحد قصور «غرناطة»، وقد بُنيت هذه المدرسة في عام 1895 على يد المهندس «موريس إيفون»، الذي كان مولعاً بالحضارة العربية. وكذلك محلات «لا كلوزري دي ليلا» في حي «مونبرناس»، وهي سلسلة من المطاعم والمقاهي التي بُنيت في عام 1847، وتُزيّنها نقوشٌ شرقية. ونوجد الجالية اللبنانية بشكل كبير أيضاً في باريس، حتى لُقّبت المقاطعة (15) «ببيروت الصغيرة»، حيث إذاعة «الشرق»، وغير بعيد عنها إذاعة «مونتي كارلو الدولية» وقناة «فرانس 24»، كما تنتشر أشهر المحلّات المتخصّصة بالمطبخ الشامي، ومع تدهور الوضع الأمني في سوريا، توافد عدد كبير من السوريين حاملين معهم تجارتهم وحِرَفهم وثقافتهم. ومع مطلع الألفية الثالثة، أُنجزتْ استثمارات عربية خليجية مُعتبَرة في العاصمة الفرنسية، وجلبت المناطق القريبة من بُرج «إيفل» وشارع «الشانزليزيه» الخليجيين، الذين اشتروا العديد من العقارات والشُقق الفاخرة، كما ظهرت مشاريع ثقافية عملاقة؛ أهمّها ترميم «الإمارات» لصرح «نابليون الثالث» بقصر «فونتين بلو» جنوب باريس، حيث فتح أبوابه للجمهور في عام 2014 بعدما ظلّ مُغلقاً منذ سقوط الإمبراطورية الثانية عام 1870، وقرّرت السُلطات الفرنسية منح اسم الشيخ «خليفة بن زايد» لهذا الصرح الملكي، الذي يتميّز بنائه بالديكور الشرقي، وتُحيط به أعمدة موريسكية وجوانبها المُزيّنة بالزخرفة الإسلامية، وهذا يُعبّر عن ولع الامبراطور الفرنسي بالحضارة العربية آنذاك. إلى ذلك تظهر ملامح الثقافة العربية مُنصهرة داخل المجتمع الفرنسي في الأدب والفن، ونجح الكثير من الفنانين والأدباء من أبناء المُهاجرين العرب في التميّز في تلك المجالات. فقد نجح العديد من الأدباء العرب في الفوز بأعلى جوائز الأدب الفرنسية وهي جائزة «جونكور» الرفيعة؛ ابتداءً من رواية «ليلة القدر» للمغربي «الطاهر بن جلّون» في عام 1987، ورواية «صخرة طانيوس» للبناني «أمين معلوف» في عام 1993، ورواية «أغنية هادئة» للمغربية «ليلى سليماني» في عام 2016، ورواية «حوريّات» للجزائري «كمال داوود» في عام 2024. ويُمكن لأيّ زائرٍ لمدينة باريس أن يرى حضور الخطّ العربي، تُعانق جماليّته الفنية الهندسة الأوروبية، حيث تُزيّن أعمال «الكوليغرافي» جسور نهر «السين»، وبعض جُدران البنايات الشاهقة. كما انتشرت المدارس العربية بعدما تمّ اعتمادها في المناهج التربوية، ويوجد عددٌ لا يُحصى من المكتبات العربية، إلى جانب معهد العالم العربي، والمركز الثقافي السعودي. وتحمل بعض شوارع العاصمة الفرنسية أسماء شُعراء وأُدباء وسياسيين عرب؛ حيث دُشّنت ساحة الشاعر الفلسطيني «محمود درويش» في عام 2010، وأُطلق اسم «محمد البوعزيزي»، مُفجّر ثورة «الياسمين» على إحدى الساحات الباريسية في عام 2012.