في تأويلِ ما تخفَّى

تحبطُني الطُّرقاتُ التي تقودنا لذوينا لا إلينا. تعبرُ طريقًا، وأعبرُ آخرَ، ولا نلتقي إلا في تعب أو شكوى، كأنَّ الوجهة معلَّقةٌ بلا وصول. اغترابُنا حقيقي، ليس لحظيّا وهو يهدر الوقت على الإسفلت، ويُباعِدُ بين ما نعرفه من الوجوه والأمكنة… يصطنعُ ذكرياتٍ خاصة بأمكنة لا تعنينا، نخلص في مجاملاتنا لها حدَّ اكتسابهـا طبعًا غريبا، وننخرط في عدّ الأيام لأقرب إجازة، ثم ننهمر دونها طيلة العام. ولا كاميرات ترصد ما تنزفه الروح على خطوط الذهاب والعودة. هو اغترابٌ بلونِ ملحٍ تقاذفتْهُ أرواحُ بحارٍ وكائنات وقصص مشوّشة، وبطعم صحراء تدفن الكلمات في الحلق، ولا تُودِعُ في المصافحات إلا فراغات يملؤها الكلامُ الشائع، حتى تسفُّها من الذاكرة ساعاتٌ قليلة فقط. هذه حياتي في اغترابي الحقيقي، أقضيها بكلمات لا تخصني، بل لا يخصني سوى ما أكتبه وفاءً لعقلي أو مخيلتي…  أو تلك الكلمات التي أكتبها لك. واغترابك ليس بعيدا عنه حتما. تتعدد الأشكال والروح واحدة، حكمة الطين والروح أزلية، سنتشابه رغما عنا، وسيشبهني كل مغترب بطريقة ما. بينما صوتك وحده على طريقي فاصلٌ في كتاب اغترابي، لا يشبه شيئا، دخلَ وقتي، ثم قطعه، ونفى الغربة عن أجزاء كثيرة منه… طاردَهَا بمهارة سائق مراوغ بعد أن ضلَّلني الطريقُ بصوته، فشقَّت عليّ العودة إليَّ كأنني مفقودة. قبلك؛ كان صوت الطريق يقبع في رأسي لأسابيع، أضع رأسي على نافذة السيارة مرارا، وأطرقها بإلحاح ينسخ نفسه، أطرقها بيأس ليكفَّ الإسفلتُ عن احتكاكه بأفكاري. أُبعده باختياراتٍ صوتية متفاوتة حتى عرفتُ صوتك، أو أحذف الأصوات كلها فأغفو قليلا؛ حيث تستقبلني هناك -حيث أحلم- أصواتي البعيدة، وأخرى معها أجهلها، تفتح صدرها لي في مكان سماوي يحكم الأسرار ويعرف عني ما لا أعرفه، يهمس أحيانا بغيبيات لا يمكنني معرفتها قبله، أرى في ثانيةٍ ما يُروى في دقائق، وهكذا… أذهب بعيدا في كثير من الأوقات، أسابق الطريق في ظفري بأشياء لا يصلها، حتى أنسى أخلاط مناماتي بتوقّفي عند الباب… باب البيت. وما البيت؟  البيتُ هنا حلمٌ لا يكتمل دونك، ولا ينقطع عن المجيء والتكرار لفرط المسافة بيني وبينه. البيتُ هنا كمنام يصعب الجزم بشأنه. يمكن تأويله لولا مغبة الجانب السيئ منه؛ ذلك الذي يوشك أن يقع بعد التأويل. وكم أحب الأشياء في صورتها النهائية! وعلى سجيتها! دون التفاف التأويلات والتخرُّصات… حين تمشي بنفسها نحوي، صريحة لا تلتفت، أو حين تأخذ بيدي… وعندما تحيطني بحنانها، وبتلك الرحمة التي أعرفُ صوتَها حين تكون. لم أنخدع قط بالرحمة، لها عينا ملاك، وقلب من غمام، لها نبرة نبيّ، وظلٌّ مهيب بلبن الأم والجدات، وهُنَّ لا يقبلنَ التزوير. المسحة الحنونة من اليد الصادقة كهرباء تعيد تشغيل الحياة؛ إذ تحط الرحمة على فاقدها ومنطفئها وتعيده رغما عنه... لا شيء في الرحمة يكذب…وإني أعرفها، أعرفها من صوتها البعيد والقريب، وذلك الصوت المنطلق في داخلي كوحي السماء، أعرفها من عينها وظلّها ورائحتها… ومن روحها وإنْ تخفّت وراء الأشياء… أعرفها أعرفها أعرفها، أو كنتُ أعرفها جيدا… وكم أمقت تأويل ما تخفَّى!؛ إذ أحبُّ الأشياء ملتصقة بي، فالتأويل بُعدٌ، بل احتيالٌ أعمى لصيدٍ محرم، ولا أريد بيتًا بمواصفات رديئة، موادُّهُ ملفَّقَةٌ من أفكار آخرين، فيجرّني مدى الحياة إلى إصلاحاتٍ خاوية تمنعني الإقامة فيه روحًا. البيت الذي ينتهي إليه طريقي مادّتُهُ من وجهينا، ورائحته مزيج من روحينا، نوافذه ما ترسَّخَ في أعيننا تجاه بعضنا البعض، أبوابه تشبه ما نكفّ حديثنا عنه. أسواره معقودة بأصابعنا، لا تتخللها عين ولا نفس، رقيقة من الداخل، تجلب الدفء بلمسةٍ، ومغصَّنةٌ من الخارج؛ إذ يمكنها إيقاف أي تجاوز. البيت الذي ينتهي إليه طريقي شرفاتُهُ رئة الجمال نفسها، تستنشق من الحياة أحلاها وتعطينا مدَّ أبصارنا بهجة. هذا البيت يفتح صدورنا للحياة يوميا، ويُبقي الحكمة في زواياه كلها، لأنّ التخلي عنها حماقة. وقد شيَّدتَ بصوتك كل هذا، فكنتَ جسدًا لرحمةٍ أخرى أُضيفَت إلى تصوّراتي القديمة عن تلك التي ظننتُ أنني أعرفها. لا أعرفُ أين وصلتَ الآن، لعلك ترسل عدة رسائل عما قطعتُهُ من الطريق ومتى وصلتَ. لا أعرف من يهتم بطريقك مثلي، أو من يفكر فيه مثلي… لا أعرف إنْ كنتَ مهتما بتلك الرسائل. ولعلي لا أهتم بموافاة أي شخص لطريقي، وأنسى مبادلتك معلومات الطريق دوما لأنني لم أصل وجهتي بعد، ما زلتُ مرتحلة مهما غادرتُ المكان وقفلتُ راجعة إلى البيت؛ فاليومُ الذي يكفّ فيه صوتُ الطريق عن أذني، هو يوم وصولي إلى البيت… لو تعلم...