السرد والإيديولوجيا والتاريخ

قد تنقذ الدراسات السردية واجتهادات روادها في شتى حقول العلوم الإنسانية المختلفة الحدثَ التاريخي من سلطة الإيديولوجيا ومناهجها ومدارسها المختلفة، والتي ما فتئت تجرّب نظرياتها بما يخدم توجهاتها وأهدافها، فمرة كان الهدف الأسمى هو الانتصار للنزعة الإنسانية بعدما شهدت عصور النهضة الأوروبية ميلا للإعلاء من شأن الإنسان بالضد من النزعة اللاهوتية التي كانت سائدة في ذلك العصر. لكن انتهى هذا الهدف الأسمى لتفسير التاريخ إلى نظرة مثالية تمجد في جوهرها الطبقة البرجوازية السياسية القريبة من السلطة. ومرة أخرى، مع التطور والتقدم الصناعي برز العقل بوصفه العامل المقدس الذي يفسر ليس التاريخ فقط، وإنما كل ماله علاقة بالإنسان والمعرفة، وأصبح المؤرخ العقلاني يحط من قيمة اللاهوتي ويعلي من شأن الفلسفي. لكنهم في كل الأحوال كانوا بلاغيين أكثر من كونهم مؤرخين محترفين في الدرس التاريخي مثل فولتير. ثم جاءت مرحلة ما بعد الثورة الفرنسية التي انقسمت أوروبا حولها انقساما عاموديا، بالخصوص في ألمانيا، نتجت عنه أفكار حدّية بين مؤيد للحرية كشعار لهذه الثورة وبين معارض بسبب ما أحدثته من دمار وحروب. هنا برز بعض الفلاسفة والمؤرخين (فيما يسمون بالرومنطيقيين) من طبقة النبلاء كهيردر وفخته وغوته الذين شيدوا معمارهم على استعادة المرحلة الإقطاعية في التاريخ اليوناني والإغريقي والحنين إليها، وركزوا على الفن والمجتمع والاقتصاد والثقافة. وكانت لغتهم شعرية ساحرة حين يتطرقون إلى أحداث سياسية معينة، ظنا منهم أنهم سوف يجذبون القارئ إلى هذا الحدث أو ذاك بهذه اللغة. وكلما تقدمنا في الزمن إلى العصر الحديث رأينا كيف كانت الدراسات حول التاريخ تخضع للمد والجزر في تطور المعرفة من جهة، وفي اختبار أفكار هذا التطور على الناس والمجتمع وردود أفعالهم وبالتالي الأحداث التي ترتبط بهم من جهة أخرى. فالأفكار التاريخانية حول النظرة للتاريخ لم تكن سوى رد فعل طبيعي على طغيان النظرة العلموية الوضعية للتاريخ نفسه. وبالقدر نفسه يمكن الإشارة إلى علاقة الماركسية بالتاريخ التي أعلت كما نعلم بالعامل الاقتصادي في قراءتها له وركزت على الطبقة الكادحة كمحرك لعجلته. ولا يمكن إغفال التوجه البنيوي الذي حكم النظرة إلى التاريخ في الخمسينات والستينات، والبداية كانت من اللغة، وذلك في تحييد شامل للواقع وفصل تام عن الأحداث. يمكن أن استمر في هذه المقالة في سرد الكثير من سرعة التحولات التي طالت دراسة التاريخ في المجتمع الغربي على يد مؤرخيها وفلاسفتها ومثقفيها ومدارسها إلى وقتنا الحاضر؛ لأعطي دليلا على أن التغيرات المادية الكبرى التي تحدث للمجتمعات، يتبعها تغير كبير في الذهنيات، وهذا الجدل بينهما، رغم ما يثيره من صراعات، يظل سمة إيجابية للفكر والمعرفة. لكن المشكلة القائمة في المعرفة التاريخية لا تخلو من ثغرات إذا اطمأن المؤرخ إلى أفكاره ونتائجه إلى الحد الذي يفضي به إلى اليقين الإيديولوجي المطلق. وإذا كان ديدن كل خطاب عن التاريخ لا يمكن أن يتخلص من هذه الإشكالية، رغم ادعائه خلاف ذلك، إلا الدراسات السردية قد تقلص هذه الإشكالية ولا تلقيها، لأنها بكل بساطة تنظر إلى أحداث التاريخ كقصص مسرودة من وجهات نظر مختلفة، والراوي العليم فيها هو التاريخ نفسه وليس المؤلف. ورؤية كهذا للتاريخ لا تخلو من موقف إيديولوجي بالطبع. لكن ثمة فرق كبير بين موقف وآخر بين موقف يستمد قيمته من معطيات وجهات النظر نفسها، وبين من يستمدها من مقولات أوسياقات خارج وجهات النظر أو السرد برمته كما هو حال علاقتنا بتاريخنا العربي وبماضينا على وجه الخصوص. وكلمة (الإنقاذ) التي وردت بالمقدمة أعني فيها هذا الماضي تحديدا. وإذا كانت أروقة الجامعات الغربية تصنع باحثين جادين حول السرد التاريخي إذ لا تخلو دراساتهم ومقارباتهم لتاريخ الإسلام سواء كان المبكر أو المتأخر من نتائج جديرة بالتأمل والمساءلة بعيدا عن مسألة الارتياب والشك التي أنتجها الخطاب الاستشراقي، فإن الباحثين العرب وإن كانت هناك جهود ملموسة منهم. لكن نحن بحاجة إلى جهود أكثر وبالخصوص داخل أروقة جامعاتنا وتخصصاتها وقد تكون جامعات المغرب العربي أكثر تطورا من هذا الجانب.