“السالفة” وأوليّة السرد السعودي.

حظي الشعر بمكانة مركزية في التاريخ الأدبي العربي، حتى بدا للبعض أن الثقافة العربية هي ثقافة شعرية بامتياز، بينما ظل السرد يُنظر إليه بوصفه فنّاً ثانوياً. لكن هذا التصور يتجاهل حقيقة أن السرد، بشقيه المكتوب والشفاهي، كان حاضراً بقوة في التكوين الثقافي العربي، وإن لم يحظَ بنفس القدر من الاهتمام النقدي. في السياق السعودي، وعلى الرغم من تأخر ظهور السرد المكتوب مقارنة بالشعر، إلا أن الأشكال السردية الشفاهية كانت حاضرة بقوة، ويمكن القول بأنها شكّلت الأساس الذي انبنت عليه لاحقاً الكتابات السردية الحديثة. وتبرز “السالفة” كواحدة من أهم التجليات السردية الشفاهية، ليس فقط بوصفها حكاية تروى، ولكن كظاهرة ثقافية متكاملة تحمل في طياتها رؤى المجتمع وقيمه وذاكرته الجمعية. ولعل اشتقاق كلمة “السالفة” من الجذري اللغوي: (س ل ف) يحيل على الماضي والسلف، والأجيال السابقة، وهي تعني أيضاً، في الاستخدام الشعبي، القصة أو الحكاية التي تُروى عن الماضي، سواء أكانت أحداثاً واقعية أم أسطورية. لكنها لا تقتصر على مجرد سرد الوقائع، وإنّما تعمل على إعادة تشكيل الماضي عبر الحكي، مما يجعلها وسيلة لربط الحاضر بالماضي، ولإنتاج وعي جمعي مشترك. وإذا كانت الحكاية الشعبية في بعض الثقافات تُروى للتسلية أو العبرة، فإن “السالفة” في المجتمع السعودي تتجاوز ذلك إلى كونها آليةً لصياغة الهوية حيث تُستحضر من خلالها قيم مثل الكرم والشجاعة والمروءة، أو تُناقش تجارب إنسانية عميقة مثل الفقد والحب والانكسار. وتختلف “السالفة” عن الأشكال السردية الكلاسيكية في أنها لا تخضع لبنية ثابتة، بل تتسم بـالعفوية والتفاعلية حيث يعتمد سردها على العلاقة بين الراوي والمستمعين، فالسارد لا يكتفي بسرد الأحداث، ولكن يؤدّيها عبر نبرات صوته، وإيماءاته، وحتى تفاعله مع ردود أفعال الحضور. وهذا ما يجعل “السالفة” ضرباً من السرد الأدائي الذي يعيد إنتاج الحكاية في كل مرة تُروى فيها، مما يمنحها مرونةً وديناميكيةً لا نجدها في السرد المكتوب. كما أن “السالفة” لا تنفصل عن سياقها الثقافي، فهي تُروى في المجالس، والأسواق، والمناسبات الاجتماعية، مما يجعلها جزءاً من النسيج اليومي للحياة، وبهذا المعنى، فهي طقسٌ حكائي ثقافي - إذا صحّ الوصف- يعيد إنتاج المعنى والقيمة في كل مرة يُعاد فيها سردها. وربما تُعدّ “السالفة” وسيلةً لنقل المعارف التاريخية والاجتماعية بين الأجيال، فتعمل كأرشيف شفاهي يحفظ سير الشخصيات البطولية، والأحداث المهمة، وحتى الحِكَم والأمثال، ومن خلالها، يتم ترسيخ المنظومة القيمية للمجتمع، سواء عبر تمجيد الفضائل أو نقد الانحرافات الأخلاقية أو عرض التجارب الإنسانية المختلفة. وفي رأيي يمكن اعتبار “السالفة” النواة الأولى للسرد السعودي المكتوب حيث استلهم العديد من الكتّاب أساليبها وموضوعاتها في أعمالهم الأدبية. ففي القصة القصيرة والرواية السعودية، نجد تأثير السالفة واضحاً في المخيال الشعبي الجنوبي في روايات عبده خال أو الاعتماد الكلي على التكوين السردي الصحراوي بكل أساطيره كما عند عواض العصيمي، أو الحكايات الشعبية حول العقيلات ورحلاتهم كما في بعض روايات محمد المزيني، أو استثمار الموروث الحكائي النجدي كما في بعض روايات يوسف المحيميد وبعض روايات بدرية البشر وغيرهم. وهنا تبدو “السالفة” بشكلها السردي ليست مجرد تراث شفاهي، وإنما نظام ثقافي متكامل يربط بين الماضي والحاضر، بين الفردي والجمعي، بين القصة والهوية. ودراستها لا تقتصر على مجال الأدب الشعبي فحسب، ولكن يمكن أن تمتد إلى فهم آليات تشكيل الوعي، وصياغة الذاكرة، وإنتاج المعنى في المجتمع السعودي. وفي عصر الرقمنة، حيث تتراجع الأشكال الشفاهية لصالح الوسائط الحديثة، تظل “السالفة” إرثاً حياً يستحق التوثيق والدراسة، كجزء أصيل من الماضي من جهة، وكإمكانيةٍ إبداعيةٍ من جهة ثانية، يمكن للكتّاب السعوديين استثمارها في صياغة سرديات جديدة، تجمع بين الأصالة والموروث والأساليب الروائية الحديثة. *كاتب وأديب وأكاديمي سعودي