المدن الذكية في السعودية: رؤية مستقبلية تتحقق على أرض الواقع.

في المملكة العربية السعودية، يُعد تبني مفهوم المدن الذكية جزءًا محوريًا من رؤية السعودية 2030، التي تهدف إلى بناء مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح. وتُولي المملكة اهتمامًا متزايدًا بتطوير مدن ذكية تجمع بين الأصالة والحداثة، من خلال تسخير التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي لتحسين جودة الحياة وتحقيق الاستدامة. ومن أبرز الأمثلة على هذه التوجهات مدينة “نيوم”، التي تُعد نموذجًا عالميًا لمدينة ذكية مستقبلية، ومدينة “العلا”، التي تدمج بين الحفاظ على التراث والتقنيات الحديثة لخدمة السياحة والثقافة والبيئة. المدن الذكية هي نمط متطور من التخطيط والإدارة الحضرية، يعتمد على دمج التكنولوجيا الحديثة مع البنية التحتية للمدينة لتحسين جودة الحياة للسكان. ويشمل ذلك استخدام أنظمة رقمية متصلة، مثل أجهزة الاستشعار وإنترنت الأشياء (IoT)، لجمع البيانات وتحليلها بهدف دعم اتخاذ القرارات وتقديم خدمات أكثر كفاءة واستجابة. تركز المدن الذكية على إدارة الموارد بشكل مستدام، مثل ترشيد استهلاك الطاقة والمياه، وتطوير شبكات النقل الذكية، وتحسين إدارة النفايات. كما تسعى إلى تعزيز الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والسلامة العامة، من خلال حلول تقنية تسهم في رفع مستوى المعيشة وتحقيق الرفاه الاجتماعي. من أبرز خصائص المدن الذكية قدرتها على التكيف مع التحديات الحضرية، مثل الازدحام والتلوث وتغير المناخ، وذلك من خلال استراتيجيات ذكية تعتمد على البيانات. وتعتبر المدن الذكية جزءًا أساسيًا من توجهات التنمية المستقبلية، حيث تسهم في بناء مجتمعات أكثر كفاءة واستدامة ومرونة. وبذلك، فإن المدينة الذكية ليست مجرد استخدام للتكنولوجيا، بل هي منظومة متكاملة تهدف إلى تعزيز الكفاءة، والابتكار، والمشاركة المجتمعية، بما ينعكس بشكل مباشر على جودة حياة السكان وحيوية المدن. تواصل المملكة العربية السعودية تعزيز مكانتها على الصعيد العالميّ من خلال جهودها المدروسة والمتواصلة في تطوير مدنها وتحويلها إلى مدن ذكيّة من خلال مشاريع رائدة تقودها الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي “سدايا” بالشراكة مع عدد من الجهات الحكومية، لبناء مدن ذكية تتوفر فيها أعلى معايير جودة الحياة، ضمن مستهدفات رؤية المملكة 2030 للتحول الرقمي. وقد ارتفع عدد المدن السعودية المدرجة ضمن مؤشر IMD العالمي للمدن الذكية لعام 2025 إلى ست مدن، وذلك بفضل جهود تكاملية استهدفت تحسين البنية التحتية، ورفع كفاءة إدارة الموارد، وتعزيز الاستخدام الأمثل للتقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء. ويستند مؤشر IMD إلى عدة معايير من أهمها مدى إدراك السكان لجهود التحول الذكي في مدنهم، وتحقيق التوازن بين التطور التقني والاحتياجات الإنسانية، بالإضافة إلى قدرة المدن على تقديم حلول ذكية ومستدامة تعزز جودة الحياة. وتأتي مدينة الرياض في مقدمة المدن الذكية في المملكة، حيث شهدت قفزات نوعية أهلتها لتكون ضمن أفضل خمس مدن ذكية على مستوى العالم العربي، وقد تقدمت 25 مركزًا عالميًا في مؤشر IMD لعام 2024. وتعكس هذه المكانة التطور الهائل في بنية النقل الذكي (كمترو الرياض)، والبنية الرقمية المتكاملة، والخدمات الحكومية الذكية. وتلتها مدينة مكة المكرمة التي جاءت في المركز الخامس عربيًا و52 عالميًا، مع تركيز كبير على تحسين تجربة الحجاج والمعتمرين من خلال تطبيقات ذكية ونظم تحكم رقمي في الحشود والخدمات. أما المدينة المنورة، فقد سجلت حضورًا في المركز السابع عربيًا، و74 عالميًا، مدعومة بمشاريع مثل “مدينة المعرفة الاقتصادية” التي تُعد نموذجًا لدمج الاقتصاد المعرفي بالتحول الحضري الذكي. كما شهدت مدينة جدة تحولات ملحوظة في البنية التحتية الرقمية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، مما أهلها لتكون ضمن المدن الذكية عربيًا و55 عالميًا، مع التركيز على مشاريع التخطيط الحضري والنقل المستدام. ومن بين المدن الحديثة الانضمام إلى قائمة المدن الذكية في المملكة، جاءت مدينة الخبر التي دخلت المؤشر العالمي لأول مرة عام 2024، واحتلت المرتبة 99 عالميًا، وذلك نتيجة لمبادرات رقمية في إدارة المرافق العامة، وربط الأنظمة الخدمية ببنية ذكاء اصطناعي تسهم في تحسين الأداء وتوفير الموارد. تتواصل جهود المملكة العربية السعودية في ترسيخ مكانتها العالمية في مجال المدن الذكية، حيث انضمت مدينة العلا إلى القائمة في عام 2025، لتبرز كمدينة ذكية تجمع بين الطابع التراثي والسياحي، إذ تُوظف فيها التقنيات الرقمية المتقدمة لحماية المواقع الأثرية، وتُدار منظومتها السياحية والخدمية بكفاءة عالية تضمن انسيابية حركة الزوار وكفاءة استهلاك الطاقة والخدمات. ويؤكد هذا التوجه التزام المملكة بتوسيع مفهوم المدن الذكية ليشمل ليس فقط المدن الكبرى، بل أيضًا المدن التراثية ذات القيمة الثقافية والسياحية العالية. وفي السياق نفسه، حافظت مدينة الرياض على مكانتها ضمن قائمة أفضل 30 مدينة ذكية على مستوى العالم بحسب مؤشر IMD لعام 2025، بينما حققت مدينة الخبر قفزة نوعية بتقدمها من المركز 99 في عام 2024 إلى المركز 61 في عام 2025. كما تقدمت مدينة جدة من المرتبة 55 إلى المرتبة 47، وسجلت مدينة مكة المكرمة تقدمًا ملحوظًا من المركز 52 إلى المركز 39. أما المدينة المنورة، فقد حققت أيضًا تحسنًا ملموسًا بصعودها من المركز 74 إلى المركز 67، مما يعكس تسارع وتيرة التحول الذكي في مختلف مدن المملكة، ويجسد التكامل بين التنمية الحضرية والتقنيات الحديثة في تحقيق أهداف رؤية 2030. وقد شكّلت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) حجر الزاوية في هذه المبادرات، إذ تقود التحول الرقمي في المملكة عبر منصات متقدمة مثل توكلنا وغيرها من المنصات المتقدمة، بالإضافة إلى إنشاء قواعد بيانات موحدة وتطبيقات تخدم المواطن والمقيم والزائر. ويُعد هذا التحول جزءًا من منظومة أكبر تتكامل مع مشاريع رؤية 2030، التي تشمل نيوم، والقدية، والبحر الأحمر، والتي تمثل مدنًا ذكية مستقبلية تدار بالطاقة النظيفة وتُدار بأنظمة مستدامة بالكامل. وفي ضوء هذه النجاحات، تمضي المملكة قدمًا نحو تحقيق أهدافها في رفع جودة الحياة، وتقليل الانبعاثات، وتحسين إدارة الموارد، وتوفير بيئة حضرية متطورة تلبّي تطلعات المواطنين وتنافس كبرى المدن الذكية عالميًا. *(أستاذ مساعد بجامعة القصيم مختص في المدن الذكية)