في زحام موناكو... هل وجد قارون السعادة؟!

عندما تخرج من ذلك الباب الذي يرتفع عدة أمتار، يمنحك زجاجه اللامع شعور الفخامة والجمال، ودرجاته الرخامية التي تقف في أسفلها أحدث السيارات وأعلاها سعرًا في انتظار خروج قاطني ذلك الفندق، فأنت متأكد أن هناك آلاف الكاميرات ستلتقط لك صورة، وهناك أيضًا عيون تراقبك، بل تنظر إليك نظرة الانبهار، تلك النظرة التي كانت في أعين قوم قارون واسع الثراء، الذي وصفه الله في قوله سبحانه: ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ، قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. لماذا؟ لأنك تخرج من “أوتيل دو باريس موناكو”، الفندق الذي يُعرف بأن نزلاءه من فاحشي الثراء. والمفارقة العجيبة أن هذه المدينة، التي تُعد موطن الثراء ونعيمه، لا تتجاوز مساحتها كيلومترين مربعين، أي إن حي المرسلات، في الرياض، هو ضعف مساحتها، بل إن “هجرة أم الجماجم” تساويها في المساحة! ومع ذلك، هي مزار أرباب الثراء، ووجهتهم الصارخة. عندما تشاهد استعراض الأغنياء، يتبادر إلى ذهنك سؤال فلسفي، هو ما دفعني لكتابة هذا المقال: إذا كان الغنى يُعد نعمة، فإن صاحبه لا يحتاج أن يتفاخر به، لأن التفاخر، أو بالعامية “الهياط”، ناتج من شعور المرء بالدونية، فهو يحاول أن يعالج شعور النقص بذلك البذخ أو الإسراف غير المبرر. وهذا على ذمة تحقيق عُرض في برنامج أسبوعي على إحدى القنوات الخاصة السعودية، حيث شُنَّت حملة على الإسراف الذي يقوم به بعض أفراد الطبقة المتوسطة. والمثير للتساؤل: لماذا لا تُسلَّط بعض البرامج الضوء على المظاهر الاستعراضية في طبقات أخرى؟ خصوصًا في مدن مثل موناكو، حيث يحرص بعض الأثرياء على الظهور الفاخر والاستعراض بالحراسات والسيارات في مدينة تُعد عادية، فهي تفتقر إلى اتساع المساحة، التي هي أساس النعيم الدنيوي، بل إن فنادقها وأثاثها لا يُعد فاخرًا كما قد تجده في مدن وأماكن أخرى. كل ذلك لأنه اشتهر أن مدينة موناكو هي مدينة الأثرياء. الجواب يكمن في حب الظهور (أو الهياط). هنا يتجلى سؤال فلسفي، مفاده: هل النفس البشرية يمكن أن تتطهر من جميع رذائلها بمجرد امتلاك المال؟ هل الغنى يجعل صاحبه كريمًا، رقيقًا، أمينًا، صادقًا، ناصحًا، مخلصًا، حكيمًا، عالمًا؟ لو كانت الإجابة نعم، فلماذا لم يكن الأنبياء أغنياء؟ ولماذا لم يكن الفلاسفة والحكماء أغنياء؟ الحقيقة أن النفس البشرية لا يُنزع منها نوازع الشر بالغنى، ولا يُنقصها الفقر رداء الخير. ولكنها الأنفس البشرية التي ألبست الفقر كل رزية، فصوّرت الفقير بأنه مجرم، محتال، قاتل، سارق، منزوع عنه الإنسانية. وكل ذلك ليس لحقيقة الأمر وصدقه، بل لأن تلك الأنفس عبَدت المال، وأحبت مجال الغنى وأصحابه، فحاولت أن تتقرب إليهم بجعل ضدهم هو العدو والمجرم الأبق. فرغم أن الهدف المعلن من تلك البرامج هو التوعية بخطر الإسراف، إلا أن بعض المتابعين قد يتساءلون: هل هناك رسائل ضمنية تُوجَّه لطبقة دون أخرى؟ لذلك، كان في ذلك البرنامج انحياز، لا لحقيقة الإسراف وخطره، بل لمحاربة الفقير وهدم جدرانه، عندما حاول أن يشعر نفسه بشيء من نعيم أهل الغنى، ويظهر بمظهر واحد من مظاهر حياتهم الباذخة. ولعل هذا الأمر أزعج أهل الغنى، لأنه فيه تشبّه أو تطاول على عروش ثرائهم، أو تشبّه بهم ممن هم أقل منهم، وذلك في ميزان ثرائهم وحقوقهم. فهل نقصد بذلك أن ما يحدث في الطبقة المتوسطة من مظاهر الإسراف أمر مستساغ؟ كلا وحاشا. ولكن عندما نريد أن نطرح موضوعًا في وسيلة إعلامية، علينا أن نطرحه بكل موضوعية، ونعالجه عند كل طائفة وطبقة في المجتمع. ويكفي الإسراف بشاعةً وجرمًا أن نهى الخالق سبحانه عنه، ونزع محبته عن فاعليه، في قوله: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾. إن المتأمل في حقيقة الإسراف والمسرفين، من أي طبقة أو دين، يحزن لأجلهم ويبكي لحالهم، لأن غياب السعادة، وفراغ قلوبهم من نسيمها الدافئ، هو دافعهم لهذا الظهور والتظاهر. وكأنهم يسترقون شيئًا من البسط والانبساط، من تلك العيون الناظرة إليهم بانبهار لفعلهم ولِما يملكون. وهذا الانبساط سرعان ما يتلاشى ويختفي، عندما تغيب الأضواء اللامعة من حول المسرفين، فقراء أو أغنياء. وإن كان الفقير سيتجرع غُصَص تهوره من دينٍ وضنك. لذلك، إذا أردنا أن نعالج الإسراف ومظاهره، بل أخطاره على المجتمعات، فعلينا أن نتعلم كيف نكون سعداء، سواء كنا فقراء بالقناعة، أو أغنياء بالمساعدة والمشاركة. وقد قال ابن القيم رحمه الله في أمر الصدقة: “إذا لم يكن المتصدِّق يرى أنه هو المُحتاج إلى ثواب الصدقة أكثر من حاجة الفقير إلى المال، فصدقته مدخولة، ونيته فاسدة.” ولقد قيل: إن للصدقة سعادة لا يمكن وصفها أو الحديث عن لذتها. لذلك، أن نكون سعداء هو ما يجيب على تلك الأسئلة الفلسفية عن الفقر، والغنى، والسعادة.