خمس لوحات تقرأ المسافة في “دموع الرمل”.

يحقق هذا العنوان في رواية “دموع الرمل” لشتيوي الغيثي مقاييس اللوحة التي قد تستوقف القارئ ليعيد تأويله لتشكيل الرواية قبل وصوله إلى استكمال أحداثها؛ لذا كان اقتراح هذه القراءة المستندة إلى بناء خمس لوحات نقدية على اللوحة الرئيسة، وتتضمن تلك اللوحات المقترحة ما يأتي: ذروة العمل ومفتاحه، تواتر الفقد، ثنائية المكان، علاقات تكاملية، صداقة أم عداوة. (1) ذروة العمل ومفتاحه يفتتح الفصل الأخير في الرواية بعنوان (الحياة ليست إلا انكساراتها)، ويمثل هذا العنوان الفرعي خلاصة الرواية وخلاصها، ومحركها الحيوي، الذي يؤكد للمتلقي بعد وصوله إلى تلك المرحلة من الأحداث المتوالية أن تلك طبيعة الحياة ولا مفر منها، وما علينا إلا الإيمان بقبولنا ذلك. لا مفاجأة كبيرة قد تحققها لك قراءة تلك الأحداث التي يمكن وصفها بأنها تتجه صعودًا إلى الذروة (التراجيدية)، ديدن كل حياة، إنها أحداث تنتمي غالبًا إلى كل بيت شَعر أقيم على رمال الصحراء، لكن اللحظة الثمينة التي قد يتلقاها القارئ، قد تتحقق للمتلقي في ذلك العنوان الفرعي الختامي الذي يبدو كجوهرة سردية/شعرية مشعّة. يتبدى في خاتمة الرواية أيضًا امتدادٌ أكثر سماكة لهذا البناء المفزع، وأقوى اتصالًا بذلك العنوان المستجلب للحزن، لاسيما تلك اللحظة التي تقود فيها الشخصية الرئيسة (نوير) مشهد معرفة مقتل ابنها (ضاري)، في معركة (السبلة) ولحظة وصوله إليها، “وبدأت تضرب الأرض بيديها، وتمسك الرمل بقبضتيها، وتنثره على رأسها، حتى ثار غبار كثيف حولها” (ص 139)، ويؤكد السارد المشهد نفسه في موضع آخر، فيقول: “وهي تلقي بجسدها على الأرض، وتنثر التراب على رأسها ووجهها وعي تبكي بكاء مريرًا”، وربما كان الفرق بينهما في موقع السارد الذي يقف في المشهد الأول خلف (نوير)، ويصف حالة مستقلة لـها، حين تأكدت من موت ابنها وكانت وحيدة، أما المشهد الآخر فقد كان السارد يقف خلف العشيرة، المجتمعة لمتابعة الحدث، فكانت تتأمل حال الأم وانفعالاتها المباشرة، وما يهمنا هنا هو ذلك المزج بين رمال ودموع في الخاتمة. (2) تواتر الفقد اُبتليت هذه العائلة الصغيرة بفقد متواتر لا حدود له؛ اُستهل بالأم التي ماتت رمزًا للمعاناة والشقاء وماتت وهي تضع (نوير)، وغادرت لتحل الابنة محلها في حمل راية العذاب، ومن ثم كانت وفاة الابنين خاضعة لتلك الثنائية (الماء والتراب)، التي وإن بدت متضادة فإنها متكاملة في الوصول إلى وفاة ذات نزع تأثيري أكبر؛ إذ توفي أحدهما غرقًا في نهر دجلة، ومات الآخر في الصحراء بعد أن افترسه ذئب ضار، (ص 18-19)، ولم يبق إلا الأب الذي عاش فترة من حياته مصابًا بكسر في ساقه، فغادره الجميع بحثًا عن الماء، فخسر إبله نتيجة السرقة، وماعزه نتيجة الجفاف، وعند شفائه اضطر لمناصرة جيش ابن رشيد في حائل، والذهاب معهم لقتال جيش ابن سعود، فقُتل في المعركة، لتبقى (نوير) مجمع الصراعات، وأفق الآمال التي رسمها أبوها مع صديقه الغني (أبي سالم)، فتزوجها من أجل أن تنجب منه، وهو ما حدث مع (ضاري)، الذي يعيد صياغة سيرة جده المقتول. كان الرمل المكون الوحيد الذي يفصل بين الجيوش، بين جيشي ابن سعود وابن رشيد، وبين جيشي ابن سعود وأخوان من طاع الله، تفصلهم في المعركة الأولى البكيرية “مسافة رملية كافية لأن يشهد جميعهم كيف تدور المعركة” ص 62، وفي معركة السبلة كانت “تفصلهم مساحة رملية واسعة” ص 127، وهي المساحة التي ستتهاوى عليها جثتين: الأولى لأبي نوير، والأخرى لضاري، وما يهمنا هنا هو ذلك المزج بين رمال ودماء يتحقق في متن الرواية. (3) ثنائية المكان يتفق ما تقدم من ذلك مع استناد دائم لا مؤقت إلى رواية مكان ثنائي: صحراء طاغية ونهر طارئ، استحضر كلاهما ملامح الموت، موت قبلي وآخر بعدي، ويتمثل الموت القبلي في كلتا المنطقتين الفاصلتين بين جيشين في معركتين متواليتين، كأنهما يتصلان حضوريًا بذلك الفاصل؛ فمن تقدم منه قُتل، ومن تباعد عنه نجا، يتراءى أيضًا في صحراء ونهر، للإنسان لا مصير له سواه، حتى وإن بلغ النهر فسيرافقه الموت بلا تردد، وتجلى الموت البعدي التأثيري في مشهد وقع نبأ موت الابن (ضاري) على أمه (نوير)، ومع أن السارد يؤكد لمتلقيه أن “البلاد لا قيمة لها من غير أهلها، الأرض حجر وتراب من غير ساكنيها” (ص 95)، إلا أن هذا التأكيد الذي يشير إلى أهمية الإنسان فيوجب استحضاره بصفة متأخرة؛ حيث يأتي تاليًا. (4) علاقات تكاملية يتمازج الرمل بالدموع بعد رحلات متباينة لحيوات تتحقق فيها مصائر شخصيات العمل المطحونة، رُسمت في بساط وبساطة البناء الروائي من أجل إنتاج المعنى، تلك البنية الميسرة المعقودة بصورة غير واعية في ثنائية الماء والتراب، المتحققة في منظومة سردية تستهل بذلك العنوان، المتأبي على مغادرة الذاكرة، بآلامه ومفارقته وأحزانه. هنا... تتجلى العلاقة بين الماء والتراب ليس بوصفها تضادية، بل علاقة تكاملية وتفاعلية بينهما؛ إذ يؤثر كل مكون منهما على الآخر بطرق متعددة، إن العلاقة بينهما لا تعني أن تقدم منتجًا سعيدًا لنا كما نسعد برؤية الماء الذي يختلط بالتربة فينتج محصولًا زراعيًا، ولكنه من نوع الماء الذي يسهم في إنتاج تشكيل جديد للتجاويف الأرضية، فيغيرها، كتغير طبيعة الشخصيات في العمل. بين الدموع والرمل تتمثل تلك المسافة التي نتقصد إبرازها في تجاويف العمل، المسافة التي تتوسل إلى شعرية أو جمالية تستند إليها الرواية، وتقوم على مكونين رئيسين يهيمنان بما يحققان من تكامل، لا بما يحققان من تضاد بنيوي؛ لأن العلاقة بين الماء الممثل للدموع والتراب الممثل للرمال علاقة تظل تكاملية؛ إذ يتمكن كل منهما من التأثير على الآخر، كيف لا وقد بدت خطوط الرمل ظاهرة على خدود (نوير) بعد وفاتها عوضًا عن الدموع، كيف لا وقد كانت ذات ذاكرة غبارية قد لا يعتد بها...(ص10). (5) صداقة أم عداوة لكل ذرة من الرمل حضورها وأثرها البدئي على بناء الأحداث وخلق الشخصيات؛ فالصحراء التي بدت عدوًا بقسوتها وابتلاعها لحيوات محيطة، ومثلت ذلك الملاذ الآمن لإنسانها، لحيوانها، فأبقت على تفاصيل حياته مطمئنة، ما لم يحدث ما هو في الحسبان، كالجهل بخطورة حيواناتها المفترسة، ومثاله مقتل الأخ، والأحداث المفاجئة حين كُسرت ساق الأب، والطمع في كسب مزيد من التغييرات الحياتية، تمثلت في مغامرة الأب، وطموح الابن ودخولهما إلى الحربين لأطماع مالية أو اجتماعية، وما عدا ذلك فالصحراء حضن رؤوم للمقيم فيها، ويتجلى ذلك في حال التاجر الذي عرف بأبي سالم، وحال (نوير) بعد بدئها التجربة الأخيرة، بإنجابها الابنة (وضحى)، وما نتج عن ذلك من انتشار نسبها ونسلها، بعد أن ظل مثار خوف لديها ولدى أبيها. وكما كانت الصحراء جامعة بين عداوة وصداقة كان الماء العدو المتمثل في نهر دجلة يقابله الماء الصديق الذي تقوم بنقله (نوير) إلى منزلها، قطرات القربة التي يراقبها الأب حال مرضه، مشهد تحولات الطقس إلى ماطر، كل ذلك يستبعد التأثير السلبي للحادثة الأولى بغرق الأخ، وتُستعاض فيه الصداقة بالعداوة، ليتعانق فيها الماء بالتراب، ولو كانت “دموع الأمهات دموع هذا الرمل الذي طالما بكى عليه وأبكاهن” (ص 141). لقد حضر الماء والرمل هنا بوصفهما مكونين مقدسين؛ يتضافران في صنع الإنسان الذي تنثال القداسة من ظروفه وما يحيط به، ومن أحداث رواية أنجزت عملية استشفاء مقدسة لمتلقيها.