“القبيلة التي تضحك ليلاً”..

رواية الذات المعلقة بين الطفولة والقبيلة.

في رواية “القبيلة التي تضحك ليلاً”، لا نقرأ سردًا تقليديًا بقدر ما نغوص في تأملاتٍ سردية شديدة الخصوصية، كتبت بلغة مشبعة بالشجن والرمز، ووعيٍ فني عميق بمفهوم الهوية والانتماء. الرواية تلامس خطوط الذاكرة، وتكشف عن صراعٍ داخلي طويل بين الفرد وجماعته، بين الطفولة كملاذ، والقبيلة كقدر. حين تشرع في صفحاتها الأولى تشعر أنك بصدد حكاية لا تُروى من أجل الحكاية، بل من أجل الاعتراف، التفريغ، وربما طلب الغفران. تجدك أمام هذا البوح العميق: “ثمّة منفذٌ وحيدٌ لعبور مثل هذه الأوقات المرعبة، أن يحطّ طائر الذكريات على أكتافنا ونكون مجرّد أشجار على الطريق…” هنا يتجلى الحس التأملي الذي يميز الرواية، حيث يتحول الماضي إلى قارب نجاة، والذاكرة إلى طائر يستقر على الكتف حين تضيق الحياة. لا تقدم الرواية حلاً، بل تفتح أسئلة متجددة عن الأصل والمصير، عن جدوى التذكر، ووجع الكتمان. يكشف النص بأن القبيلة تمثل شيفرة ثقافية، العنوان بحد ذاته، “القبيلة التي تضحك ليلاً”، يحمل طيفًا ساخرًا مريرًا، يلمّح إلى سلطة اجتماعية تراقب وتُحصي وتضحك في الظلام، في وقتٍ يصارع فيه الفرد وحدته وهمومه. في إحدى التأملات اللافتة، والتفسيرات النفسية، يكتب الراوي: “أظن أنهم لا يستخدمون الإشارات لأن ثمة بداوة روحية ما زالت راسبة في النفوس…” هنا يمارس الكاتب نقدًا اجتماعيًا عميقًا عبر نافذة يومية صغيرة: قيادة السيارة. فاللاوعي الجمعي لا يزال يتحرك بمنطق الغريزة والحذر، وكأن الإفصاح عن الوجهة حتى الآن، يُعد ضعفًا أو تهورًا. الرواية لا تعوّل على تنوع الشخصيات، بل خلق منها كائنات عابرة في مرآة السارد، ولا على تعقيد الحبكة. بل تتكئ على حضور داخلي لشخصية الراوي، الذي يبدو وكأنه يتحدث من فجوة بين زمانين: زمن عاشه بصدق، وآخر يعيشه بتحفّظ. الشخصيات الأخرى تأتي خافتة، تمرّ كأطياف، لأن تلك الشخصيات لا تأخذ شكلها الروائيّ الكلاسيكيّ؛ فهي ليست محدّدة الملامح والوظائف، بل تظهر غالبًا كظلال داخل الراوي أو من حوله. هم “الآخرون”، “الأقرباء”، “العابرون”، أو حتى “الطريق” نفسه. وهذه التقنية تمنح الرواية طابعًا تأمليًا أكثر منه حكائيًا، فالشخصيات لا تتحرك بالحدث، بل بالذاكرة والانفعال، وهي غالبًا تمثل أفكارًا أكثر مما تمثل أفرادًا. الأسلوب في “القبيلة التي تضحك ليلاً” يُعد أحد أبرز عناصر الجمال في النص، فهو يمزج بين البساطة والعمق، وبين الرمز والوضوح. لغة مشبعة بالحس الشعري والتكثيف، كما في هذا المشهد الوجداني: “من المؤلم إخفاء المشاعر مهما تكن، وكتمانها مهمة موجعة خطرة، ولربما تبدو أشد إيلامًا من نزول الجبل بساقٍ مكسورة”، في هذه العبارات، تستحيل المشاعر إلى ثقل جسدي، بل إلى ألمٍ يفوق كسر العظام. هي لغة متقشفة لفظيًا، لكنها ثقيلة بالتجربة. يمكن النظر إلى الرواية بوصفها امتدادًا لخط سردي عربي ينشغل بالذاكرة الفردية وتقاطعاتها مع المجتمع، كما في “سيرة مدينة” لعبد الرحمن منيف، أو بعض أعمال إبراهيم نصر الله ذات الطابع التأملي. لكنها في الوقت نفسه تظل محتفظة بخصوصيتها؛ فليست رواية سياسية، ولا تاريخية، بل نصٌّ يُبحر في الداخل، في هشاشة الإنسان حين يواجه العالم. في رواية “القبيلة التي تضحك ليلاً”، لم يكتف الكاتب ببناء عالمٍ سرديّ مشحون بالشجن والحنين، بل يؤسس لخطاب أدبيّ معقّد يتداخل فيه الذاتي مع الجمعي، والوجداني مع التاريخي، ضمن فضاء روائي يتأرجح بين السخرية المرّة والتأمل الفلسفي. الرواية ليست فقط حكاية، بل هي اعتراف طويل، ونبشٌ في تربة الروح حيث تترسّب البداوة، ويتكلّس الخوف، وتنبت بذور الحنين والتمرد. “القبيلة التي تضحك ليلاً” عمل أدبيّ ينتمي إلى الروايات التي تُقرأ ببطء، وتُعاد قراءتها كلما اشتدّ في النفس السؤال: من أنا وسط هذا الجمع؟ هي مرآة شفافة للإنسان وهو يحاول النجاة، لا من الناس، بل من شعوره الدائم بالانتماء إليهم. إنها نصّ عن الإنسان العالق بين انتمائه وخوفه، بين حنينه وتمرده. وفي كل فقرة، في كل جملة مشبعة بالطين أو مطرزة بالخوف، يسمع القارئ صوتًا يقول: “الذاكرة ثقيلة، والنجاة منها لا تكون إلا بالكتابة.”. *كاتب وروائي.