ماذا تبقّى من “بنات الرياض” ؟

عندما صدرت رواية بنات الرياض لرجاء الصانع عام 2005، أحدثت صدىً هائلًا تجاوز حدود الوسط الأدبي ليطال المجتمع والثقافة السعوديين بعمق. كان ذلك العمل، الذي ظل وحيدًا في مسيرة كاتبته، أشبه بقنبلة فجّرت العديد من التابوهات الاجتماعية، مقدمة صورة جريئة وغير معهودة عن حياة نساء سعوديات ينتمين إلى طبقات اجتماعية مختلفة. وبطريقة ذكية اعتمدت الرواية على رسائل البريد الإلكتروني كإطار سردي، وهو أسلوب كان جديدًا ومثيرًا آنذاك، ما زاد من عنصر المفاجأة والتفاعل مع النص. لقد جاءت بنات الرياض في زمن كانت فيه الأصوات النسائية قليلة الحضور في المشهد الأدبي السعودي، الأمر الذي أكسب الرواية ثقلًا أكبر، وجعلها نصًا قابلا للتأويل والنقاش والاصطفاف الثقافي والاجتماعي. غير أن التساؤل الذي يطرح نفسه اليوم، بعد مرور نحو عقدين من الزمان والتحولات الجذرية التي شهدتها المملكة العربية السعودية، لا سيما مع إطلاق رؤية 2030 وتمكين المرأة في شتى المجالات، هو: ماذا تبقى من هذه الرواية؟ من جهة فنية، لم تكن بنات الرياض ذات بنية روائية متماسكة أو لغة أدبية استثنائية تمنحها مكانة بين الأعمال الخالدة. لقد استمدت قوتها من جرأتها ومن قدرتها على كشف المسكوت عنه أكثر مما استمدتها من براعتها السردية أو تقنياتها الفنية. واليوم، وقد أصبحت قضايا المرأة في قلب المشهد التنموي والثقافي، لم يعد الطرح الذي قدمته الرواية بالحدة أو الندرة التي ميزته حينها؛ بل غدت بعض موضوعاتها جزءًا من واقع يومي يتناول الإعلام والأدب تفاصيله بشفافية واسعة. ومع ذلك، فإن الحكم على بنات الرياض بمعايير اليوم وحدها فيه ظلم لمكانتها التاريخية. فالأعمال الأدبية ليست فقط بما تقدمه من فنية عالية، بل أيضًا بقدرتها على التقاط روح اللحظة الاجتماعية والسياسية التي ولدت فيها. ومن هذه الزاوية، تظل الرواية وثيقة أدبية مهمة، سجلت مرحلةً كانت الأصوات الأنثوية تحاول فيها التسلل إلى الفضاء العام بشيء من الحذر والتمويه. قد تكون الرواية قد فقدت عنصر الصدمة، لكنها لم تفقد دلالتها التاريخية بوصفها نصًا مؤسسًا لمرحلة من الجرأة الأدبية النسائية. وإذا أردنا أن نضع بنات الرياض في سياق تطور الرواية السعودية، فإننا لا بد أن نشير إلى أن الرواية السعودية قطعت منذ نشأتها رحلة طويلة وحافلة بالإنجازات. فقد بدأت بمحاولات روائية أولى خجولة، كما في عمل عبد القدوس الأنصاري (التوأمان، 1930) ثم تطورت عبر كتاب الستينيات والسبعينيات، كإبراهيم الناصر الحميدان، وسميرة خاشقجي، وهدى الرشيد، الذين رسخوا القواعد السردية وأضفوا على الرواية السعودية طابعًا اجتماعيًا ونقديًا. في التسعينيات، وما تلاها، برزت أسماء، مثل، غازي القصيبي، تركي الحمد، عبدالعزيز الصقعبي، ليلى الجهني، رجاء عالم، عبده خال، عبدالله ثابت، عواض العصيمي، يوسف المحيميد، وغيرهم، ليشهد الأدب السعودي مرحلة ازدهار لافت، حيث خرجت الرواية من الإطار المحلي لتتناول قضايا الإنسان الكبرى بلغة أدبية طموحة. وقد تُوج هذا الحراك بنيل عبده خال جائزة البوكر العربية عام 2010 عن روايته ترمي بشرر، تبعته، رجاء عالم، في العام 2011 عن روايتها طوق الحمام، مناصفة، مع المغربي محمد الأشعري، عن روايته قوس الفراشة، عقب ذلك، محمد حسن علوان الذي حصد الجائزة نفسها عام 2017 بروايته موت صغير. الرواية السعودية اليوم، في ظل الانفتاح الثقافي والاجتماعي الكبيرين، أصبحت أحد روافد الأدب العربي الحديث، تناقش قضايا الهوية، والمرأة، والحداثة، والتغير الاجتماعي، والاغتراب، بأساليب سردية متنوعة تجمع بين الأصالة والتجريب. وتعددت مدارسها، من الواقعية إلى الرمزية والفانتازية، حتى غدت جزءًا حيًا من المشهد الأدبي العربي. في هذا السياق الثري، تبقى بنات الرياض علامة مهمة لا يمكن تجاوزها عند الحديث عن الرواية السعودية الحديثة. قد لا تكون الرواية قديمة في المدى الزمني، لكنها أصبحت قديمة بمعايير التحولات السريعة، إذ بات خطابها يذكّرنا بالمسافة الكبيرة التي قطعها المجتمع السعودي في زمن قصير. واليوم، تتخذ الرواية قيمتها من كونها سجلًا اجتماعيًا أكثر مما هي منجز أدبي خالد، على أنها تبقى حدثا من الحكاية الكبرى للرواية السعودية؛ الحكاية التي ما فتئت تكتب فصولها بثقة متزايدة.