يان شاويان نموذجا..

الفلك بين الشعر العربي والصيني.

لطالما شغف الشعراء منذ قديم الزمان بالسماء وما يتغير فيها من ظواهر فيزيائية وكانت محركا لهم في صورهم الشعرية وذلك أمر طبيعي لأن الشعر لا ينفصل عن حياة العرب وهم العارفين بأنواء السماء ونجومها يبصرونها بعينهم المجردة ويربطون بين مواقعها وشؤون حياتهم فيعرفون مواسم نزو الإبل والحيوان وأفضل أوقات الصيد والزراعة فيعتمدون على كوكبة « بنات نعش -وهي جزء مما يعرف فلكيا بالدب الأكبر - وخصوصا نجم سهيل بها لأنه الأكثر وميضا ويعتبرونه بداية الصيف وموسم الزراعة خصوصا في المناطق الصحراوية إذا هي حاضرة في شؤون الشعر لجمالها ومواقع تشكلاتها ولأساطيرها الثرية كذلك يقول الشاعر النابغة الذبياني «كِليني لِهَمٍّ يا أُمَيمَةَ ناصِبِ / وَلَيلٍ أُقاسيهِ بَطيءِ الكَواكِبِ / تَطاوَلَ حَتّى قُلتُ لَيسَ بِمُنقَضٍ / وَلَيسَ الَّذي يَرعى النُجومَ بِآيبِ» ويقول عنترة (جَوَاهِرُهُ النُّجُومُ وَفِيهِ بَدْرٌ/ أَقَلُّ صفَاتِ صورَتِهِ التَّمَامُ/ بَنُو نَعْشٍ لِمَجْلِسهِ سرِيرٌ/ عَلَيْهَا وَالسمَاوَاتُ الْخِيَامُ) ولهم أسماء تخصهم يسمون بها الأبراج ويهتدون بها الطريق وكأنهم يخبرون سككها ودروبها (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ – النحل 16) ويظهر ذلك في شعرهم وحديثهم قديما وحديثا ومنه ما جاء في كتاب الأغاني عن أخبار السليك (من صعاليك العرب) عندما كان يحتال ليغير فيسأل في سوق عكاظ :» من يصف لي منازل قومه، وأصف له منازل قومي؟ « فيصفون له وحين يسأل عن منازل قومه يقول : «خذ بين مطلع سهيل ويد الجوزاء اليسرى العاقد لها من أفق السماء، فثمّ منازل قومي بني سعد بن زيد مناة.» وهذه العلاقة بين ما يراه الشاعر امتدت منذ القديم الغابر وتنقلت بين أعين أجيال الشعراء كل حسب علمه ومعرفته وملاحظته للفلك حتى في عصرنا الحديث ولكنها لم تكن حصرا على العرب فنرى أثرها في شعر الحضارات والأقوام الأخرى ومنها الشعر وهنا أحببت أن أقتطف مقتطفات من نصوص شاعرة صينية معاصرة تمثل رؤية الفلك بالعين المسلحة الحديثة وهي عالمة أيضا يتداخل الفلك في نصوصها الشعرية كما يتداخل الشعر بنصوصه المكتوبة عن الفلك بين الرؤية الشعرية والعلمية فيتكون مزيج لا ينحاز إلى جهة دون الأخرى ولا يهرب منها سأقتطف من شعرها أثر الفلك على الشعر المعاصر وأختار ما يقترن به من أثر الفلك على الشعر العربي القديم تقول يان «مثل كلب صيد يبحث عن الدرب، تصوب ركوبة المزواة الارتفاع والسمت كقوسٍ نشابٍ ذو رؤية ليلية، بينما تلتقط ربع زاوية الارتفاع الخالدةً فوق الأفق الهادئ المقوّس.» والمزواة آلة حديثة تستعمل في أعمال مسح الأرض، لقياس الزوايا الصغيرة في الأفق والركوبة: دعامة تسمح بتدوير الآلة حول محورين عموديين. وهي آلة مطورة من الإسطرلاب الذي اشتهر في العصر العباسي ونراه حاضرا حتى في شعر ابي العلاء المعري «أسْطرٌ لابَ، حولهنّ، جهولٌ/ فهو يرجو هَديْاً بأسطَرلابِ / لا تقِسني على الذي شاعَ عني/ إنّ دُنْياكَ معدِنٌ للخِلاب « وحين تقول يان «زخة الشهب الرباعية»، هيجان باسم كوكبةٍ منسيةٍ منذ زمنٍ بعيد، تجذب جميع العدسات لتسلط على السماء السفلى في الشمال الشرقي: في تلك اللحظة، يبدو كل تلوثٍ ضوئيٍّ تافهًا؛ في عيون الناظرين، يتألق درب التبانة روعة بكل ما تحته، مع خدوشٍ دقيقةٍ موزعة بالتساوي في جميع أنحاء أطلس كويليستيس الذي نشر قبل قرنٍ من الزمن.» نعلم أن الأثر حديث فقد تم اكتشاف الشهب الرباعية عام 2003 حيث تصل ذروتها بداية يناير ويسهل مشاهدتها في النصف الشمالي من الكرة الأرضية. وحين تشير إلى الاكتشاف الحديث تستعيد ذاكرة أول وأضخم شامل للنجوم التلسكوبية نشر عام 1729 بعد وفاة مؤلفه بعشر سنوات ومن باب المقارنة نذكر ابن المعرة مرة أخرى لأنه يخاطب الشهب وكأنها حكماء وشهود على الملوك والأمصار أ شُهبُ إِنَّكِ في السَماءِ قَديمَةٌ/وَأَشَرتِ لِلحُكَماءِ كُلَّ مُشارِ/ أَخبَرتِ عَن مَوتٍ يَكونُ مُنَجِّماً / أَفَتُخبِرينَ بِحادِثِ الإِنشارِ/ مَن لِلمُمَلَّكِ تُبَّعٍ أَو قَيصَرٍ/ أَو كانَ مِثلَ مَليكِكِ العِشّارِ وحين تشبه يان الظلمة بالستارة «إنه الشهر الذي تتلألأ فيه دائرة الشتاء عالياً في أقصى تلك النظرات المتوهجة من الكوخ المغطى بالثلوج في الجبال، بينما تتدلى شرّافات*4 الضوء الخافت من القبة السماوية، مثل ستارة من صقيع تذوب خلف الكواليس» وتمتزج الصورة بالعلم فالثلج ستارة من صقيع والضوء حبال تزين أسفلها (الشرّافة) تلك التقليدية التي تزين بها الستائر في أسفل حبالها وهذا النص يجعلنا نستدعي مباشرة الأبيات الشهيرة لا مرء القيس وسدول ستر الليل (وليل كموج البحر أرخى سدوله/ علي بأنواع الهموم ليبتلي) وحين تقول ين مستحضرة أسماء النجوم والأبراج «رجل الجبار معزولة، بينما الدبران مهيب، والعيوق ثابت، أما رأس التوأم فمبهرج... حَسب َلالاند ولاكيل المسافة القمرية باستخدام حاسبة المثلث القائم، كما لو كانا يلقيان بظل عقرب فلكي شاهق من برلين باتجاه رأس الرجاء الصالح.» تذكرنا صورة بين الرجاء الصالح وبريلين ما وصف به السليك منازل قومه أما التأمل في النجوم ووصفها فهو كثير عند العرب ومنها قول الشاعر العباسي ابن عبد ربه (وَأَزْهَرَ كالعَيُّوقِ يَسعَى بِزهْرَاءِ/ لَنَا مِنْهُما دَاءٌ وَبرْءٌ مِنَ الدَّاءِ أَلا بِأَبي صُدْغٌ حَكَى العَينَ عِطفُهُ/ وشَارِبُ مِسْكٍ قَدْ حَكى عَطفَةَ الرَّاءِ هناك أيضا منظومة مشهورة لشاعر عباسي آخر هو أبو الحسين الصوفي بها رصد للنجوم والكواكب المعروفة شعرا وبينما تستثمر ين خواص الكواكب ومنازلها فتقول «الوحدة الفلكية» خُلقت من المتوسط. أصبحت المسافة بين الأرض والشمس، وحضيض وأوج الكواكب الداخلية والخارجية، أكثر حيرة: فلكل من المريخ وزحل اعتدالاته الخاصة، مع عواصف رملية هائلة وحلقات ذات أخاديد التوالي في مناسباتها السنوية. حتى الآن، لا يزال صدى صوت هيبارخ، وهو يتحدث عن اكتشاف تقدم الاعتدالين بواسطة نجم السماك الأعظم يبتعد درجتين ويتردد». وتستعيد الفلكي اليوناني هيبارخ ( 120 قبل الميلاد) وهي تتأمل المريخ وزحل برؤية حديثة نجد أن هذا البناء الصوري وهذان الكوكبان شغفا الشعراء حبا ففي قصيدة ابن الرومي(العصر العباسي ) على سبيل المثال ما إن لدولتكم إبّانُ مُنقرضٍ/ كلا لعمري ولا ميقاتُ مرتحلِ / أنجى الإلهُ من المريخ زهرتكم / ومشتريكم فقد أنجاهُ من زحلِ بينما يقول المعري (لَقَد تَرَفَّعَ فَوقَ المُشتَري زُحَلٌ/فَأَصبَحَ الشَرُّ فينا ظاهِرَ الغَلَبِ /وَإِنَّ كَيوانَ وَالمِرّيخَ ما بَقِيا/لا يُخلِيانِكَ مِن فَجَعٍ وَمِن سَلَبِ) لا يمكن أن يفهم معنى وصور الشعر الحديث المعتمد على العيون المسلحة والمتسلح بالعلم كما لا يمكن أن يبلغ القارئ عمق صورة الشعر العربي القديم مالم يتسلح بمعرفة تليق بالنص ولولا هذه المعرفة لا يمكن أن تفهم معنى هذا البيت للشاعر الحلي ( العصر المملوكي ) لِم صَيَّرتَ بُعدَكَ قَيدَ قَلبي/ وَكانَ جَمالُ وَجهِكَ قَيدَ عَيني فصرنا نشبه النسرينِ بعداً/وكنّا أُلفَة ً كالفَرقَدَينِ والفرقدان نجمان من نجوم كوكبة الدب الأصغر يعرفان بحارسي القطب حيث يدوران مه النجم القطبي ويستدل بهما عليه. ... يان شاويان: مؤسسة مدرسة الشعر الموسوعي (عام 2007). تخرجت من جامعة بكين للدراسات الدولية وتخصصت في الأدب الياباني. وهي عضو في رابطة الكتاب الصينيين، ورابطة المترجمين في الصين، ومعهد الشعر الصيني. نشرت 11 كتابًا بما في ذلك 5 مختارات شعرية منها ذكريات سريعة الزوال (2010)، ما وراء تسولكن (2013)، الثلاثية الطليعية (2015).