
في أحد أزقة العاصمة الجزائرية، حيث تختلط رائحة البحر بنسمات التاريخ العريق، كان طفل صغير يركض بين أزقة القصبة، يحمل في عينيه بريقًا خاصًا، وكأن القدر يخبئ له طريقًا غير عادي. كان هذا الطفل هو سيد علي كويرات، الذي سيصبح لاحقًا واحدًا من أعظم رموز المسرح والسينما الجزائرية. وفي زمن كانت فيه الجزائر رازحة تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، كان المجتمع الجزائري يعاني من التهميش الثقافي، إلا أن المسرح الشعبي والمقاهي الثقافية كانت تحاول الحفاظ على الهوية الوطنية. وبينما كان معظم الشباب منشغلين بالحياة اليومية القاسية، كان كويرات شغوفًا بالفن، يراقب الممثلين الكبار في العروض المسرحية، يحفظ تعابير وجوههم، ويحلم بأن يكون يومًا ما جزءًا من هذا العالم السحري. وُلد كويرات يوم 3 يناير 1933، وسط مجتمع كان يعيش تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، حيث كانت الجزائر تغلي بالغضب والصمود. وفي هذا الجو المشحون، لم يكن للفن حضور قوي بين الجزائريين، لكنه كان حاضرًا في قلب الفتى الصغير الذي كان يحلم بشيء أكبر من الواقع الذي يحيط به. لم يكن يدرك حينها أن المسرح والسينما سيصبحان سلاحه الخاص في معركة الوجود والحرية. كبر كويرات في بيئة بسيطة، لكنه لم يكن كأي طفل آخر. فقد كان مولعًا بالمسرح منذ صغره، متأثرًا بالعروض التي كان يشاهدها، وبالأحداث التي تهز بلاده. لم يكن الفن بالنسبة له مجرد تسلية، بل كان وسيلة للتعبير، للحلم، وربما حتى للمقاومة. اللقاء الذي غيّر مجرى حياته لم يكن القدر ليخذل طموح الفتى الصغير، ففي عمر 17 عامًا، التقى بالمخرج المسرحي الكبير مصطفى كاتب، وهو اللقاء الذي سيشكل نقطة التحول في حياته. رأى كاتب في كويرات طاقة استثنائية وشغفًا حقيقيًا بالفن، فضمه إلى فرقته المسرحية الخاصة بمسرح الهواة. كانت تلك الفترة تمثل بداية تحول المسرح الجزائري من مجرد ترفيه إلى وسيلة للتعبير عن قضايا المجتمع. وفي هذا السياق، بدأ كويرات يتدرب على أداء الأدوار المختلفة، يتعلم من الأساتذة الكبار، ويصقل موهبته مع كل عرض جديد. لكن القفزة الكبرى في مسيرته لم تأتِ إلا عندما التقى بـمحي الدين باشطارزي، الذي أدرك موهبته الحقيقية ومنحه فرصة الانضمام إلى الفرقة المسرحية البلدية للعاصمة عام 1954، وهي الفرقة التي كانت تشرف على الإنتاجات المسرحية الاحترافية. الفن في خدمة الوطن: كويرات والمناضل الفني لم يكن المسرح بالنسبة لكويرات مجرد مهنة، بل كان سلاحًا للنضال، وخاصة في ظل الاحتلال الفرنسي الذي كان يسيطر على جميع جوانب الحياة الثقافية في الجزائر. في 1951، سافر مع فرقة «المسرح الجزائري» إلى برلين، ثم إلى باريس عام 1952، حيث قدم عروضًا في المقاهي الجزائرية، مرددًا بصوته الجهوري أغنية «من جبالنا»، التي تحولت إلى نشيد للثورة الجزائرية. وفي عام 1954، شارك في المهرجان العالمي الثاني للشباب والطلبة من أجل السلام في بوخارست، وكان من بين الفنانين الذين استخدموا المسرح كأداة لنقل معاناة الشعب الجزائري إلى العالم. وفي عام 1958، انضم إلى الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني، التي كانت تهدف إلى توعية الرأي العام الدولي بالقضية الجزائرية عبر العروض الفنية في مختلف أنحاء العالم. ما بعد الاستقلال: المسرح والسينما وجهان للإبداع مع استقلال الجزائر في 1962، عاد كويرات إلى وطنه، مدركًا أن دوره لم ينتهِ بعد، بل بدأ مرحلة جديدة من التحديات. انضم إلى المسرح الوطني الجزائري، حيث شارك في العديد من العروض المسرحية التي ساهمت في ترسيخ المسرح كأحد أعمدة الثقافة الجزائرية بعد الاستقلال. لم تتوقف مسيرته عند المسرح، بل دخل عالم السينما من أوسع أبوابه، وكان أول أدواره التلفزيونية في اقتباس تليفزيوني لمسرحية «أبناء القصبة» لعبد الحليم رايس، التي أخرجها مصطفى بديع. كان هذا العمل محطة فارقة في مسيرته، إذ جعل الجمهور الجزائري يتعرف عليه كممثل قادر على نقل المشاعر العميقة وتجسيد الشخصيات بحرفية عالية. العصر الذهبي للسينما الجزائرية: كويرات نجم بلا منازع في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، شهدت السينما الجزائرية نهضة كبيرة، وكان كويرات في قلب هذه الموجة. قدم أدوارًا خالدة في أفلام تناولت الثورة الجزائرية والنضال الوطني، من بينها: •«الأفيون والعصا» (1970) للمخرج أحمد راشدي، حيث لعب دورًا جسّد معاناة الجزائريين أثناء الاحتلال. •«ديسمبر» (1971) لمحمد لخضر حمينة، الذي تناول القمع الفرنسي بأسلوب سينمائي قوي. •«وقائع سنين الجمر» (1974)، الفيلم الجزائري الذي فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان، وكان من أقوى أدواره التي جسدت عمق النضال الجزائري. لكن موهبة كويرات لم تقتصر على الأدوار الدرامية فحسب، بل تألق أيضًا في الكوميديا والأعمال الاجتماعية، حيث قدم شخصيات محبوبة في أفلام مثل: •«هروب حسان طيرو» (1974) لمصطفى بديع •«حسان طاكسي» (1982) لمحمد سليم رياض •«حسان النية» (1989) للغوثي بن ددوش كما شارك في أفلام عربية لمخرجين كبار، مثل «عودة الابن الضال» (1976) للمخرج المصري يوسف شاهين، و**»الأقدار الدامية»** (1980) لخيري بشارة. التحديات والاستمرار في العطاء مع دخول الجزائر في فترة التسعينيات، تأثرت السينما بالأزمة الاقتصادية والسياسية، لكن كويرات لم يبتعد عن الساحة، بل استمر في تقديم أدوار قوية في أفلام مثل: •«صحراء بلوز» (1991) لرابح بوبراس •«المشتبه بهم» (2004) لكمال دهان •«موريتوري» (2007) لعكاشة تويتة كما شارك في مسلسلات تلفزيونية مثل «اللاعب» (2004) و**»عمارة الحاج لخضر»** (2009)، حيث أظهر قدرة رائعة على أداء الأدوار الكوميدية والاجتماعية. التكريم والرحيل حصل كويرات على العديد من الجوائز الوطنية والدولية تقديرًا لمسيرته الفنية، لكنه كان يعتبر أن حب الجمهور هو أكبر تكريم له. ظل حتى آخر أيامه مؤمنًا بأن الفن رسالة، وأنه لا يمكن فصله عن الواقع الذي يعيشه الناس. وفي 5 أبريل 2015، رحل عن عالمنا، تاركًا وراءه إرثًا فنيًا خالدًا وأدوارًا لن ينساها الجمهور الجزائري. رحل سيد علي كويرات، لكن صوته، صوره، وأدواره لا تزال حية في ذاكرة الوطن. كان أكثر من مجرد ممثل، كان فنانًا ثوريًا، مبدعًا لا يُنسى، وأيقونة في تاريخ السينما والمسرح الجزائري. *صحفي ــ الجزائر