فلسفة الولد الشقي.

السخرية أو الكتابة الساخرة ليست سوى نتيجة أحد المسارين، إما أن تكون ناتجة عن تفكير لحظيّ، يظهر كنتاجٍ لتأثيرات المجتمع، ويكون هدفها الفُكاهة.. وسخرية كهذه ليست بذات ديمومة، وعادة لا تحوي تبعات أو رسائل عميقة، فهي سخرية لأجل السخرية. أما النوع الثاني من السخرية، فهو تعبير عن وجدان الشخص الساخر أو الكاتب، ورغبته في التعبير عن فكرة أو موقف يتعدّى حدود الكوميديا السوداء، ويحمل مغزىً وأثراً أكبر. وتاريخياً، فإن أول من اعتنق مبدأ النوع الثاني من السخرية هو الفيلسوف اليوناني “ديوجين”، الذي كان مُعاصراً لأفلاطون وأرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد كان هذا الفيلسوف غالباً ما يستخدم الفكاهة لإخفاء شخصيتة ورؤيته الفلسفية، ويحاول بمهارة أن يُخفي خلف سخريته انتقاده للأمور التي لا يتّفق معها. ومثال على ذلك، عندما عرَّف أفلاطون الإنسان بأنه: “حيوان ذو قدمين، ليس له ريش”! وقد حظي هذا التعريف بالرضا والقبول.. وعندما علم ديوجين بهذا التعريف، قرّر إظهار تحفّظه تجاهه بطريقة ساخرة؛ فأحضر ديكاً وقام بنزع ريشه، ثم حضر إلى محاضرة أفلاطون، وصاح بصوتٍ عالٍ: “هذا هو الإنسان عند أفلاطون”! وروي عن ديوجين أنه كان يتجوّل في أحد الأزقّة في “أثينا”، فاكتشف لافتة مُعلّقة على باب منزل أحد الأشقياء الذين يُثيرون الإزعاج، مكتوب عليها: “لا يُسمح بدخول الأشرار هُنا”، فقرّر ديوجين بفلسفته الساخرة أن يُضيف لمسة من الفكاهة والنقد، فكتب تحت اللافتة: “ومن أين يدخل ربّ المنزل”!؟ وكذلك كان الأستاذ “محمود السعدني”، وهو علمٌ من أعلام الكُتّاب الساخرين في العالم العربي، والذي لقّب نفسه بالولد الشقي في رباعيته التي تحمل نفس الاسم وتحتوي على سيرة حياته، وتفيض بكنز ثقافي مُمتع من المذكّرات التي تجمع بين اليوميات والمغامرات الصحفية والمآزق الشخصية، وكتبها بطريقة ساخرة جذّابة جعلته مع غيرها من الكُتب، من كبار الكُتّاب العرب في هذا المجال. إن القاريء المُتأمّل لكتابات الأستاذ السعدني يجد كثيراً من أوجه المهارة والذكاء المُتمثّل في نقد الأوضاع أو المواقف بشكل غير مباشر، أو التعبير عن أفكاره الفلسفية بشكلٍ فُكاهي، وبطريقة غير تقليدية. فهو يصوّر مُعاناته مع الفقر في بداية حياته بطريقة بليغة ومُختصرة، فيصف نفسه بأنه كان يعيش كأبناء الغجر: “أهلب رزقي بالعافية، وأتناول الطعام ليس لأنني جائع ولكن لأنني وجدته، وأنام عندما يُغمى عليّ من شدّة الإرهاق، وأذهب إلى أيّ مكان ما دامت هناك دعوة”. لقد كانت ملابسه غير لائقة في تلك الفترة، وكان يشعر بخجل شديد من عيون الناس، وهي تسخر من عيوب الجاكيتة ومساويء القميص؛ ويشرح فلسفته في المظهر الشخصي الذي اتّبعه عندما غادره الفقر بعد ذلك، فيقول: “لعل تلك الأيام هي السرّ في أنني سأظلّ بقيّة حياتي أشعر بضعفٍ شديد أمام الملابس الجديدة، وسيظلّ بي شغف شديد بالأناقة، وحرصٌ أشدّ على أن أبدو دائماً في ثوبٍ قشيب”. ولقد كانت فكرة الصحافة في ذهنه عندما تحرّك قاصداً عالمها، أنها سُلطة رابعة، وأنها صاحبة جلالة، وأن لها بلاطاً، وأنها حفلات ورحلات، وأن الصحفيّ بمجرّد دخوله يتحوّل إلى نجم مشهور، يكتب وهو جالس على مقعد وثير في مقهى أنيق، تستيقظ الجماهير على هدير صوته، وعدلٌ يقوم وظُلمٌ يُدَكّ بفضل توجيهاته وتعليماته! ولكنه للأسف يُصاب بخيبة أمل، ويخرج من تجربته الأولى في الصحافة، بقوله بأسلوب تهكّمي: “لقد فقدتُ تلك الصورة الزاهية الألوان عن صاحبة الجلالة وبلاطها، وأدركتُ أن البلاط هو الواجهة، ولكن في الخلف هناك مزابل ومطابخ ذات رائحة عفنة”! وعندما اصطحبه صديقه الأستاذ “محمد عودة” للمرّة الأولى إلى مقهى “إيزافيتش” الراقي، تملّكه الانبهار بشِلّة “الأفنديّة” المثقّفين هناك، وعندما أبدى لصديقه إعجابه بحديثهم، قال له صديقه في امتعاض شديد: “لا يغُرّنك الكلام المُقعّر الذي يقولونه!”، ثم أن صديقه عرّف المثقّف الحقيقي بأنه: هو الذي يعيش حياة الناس، ويُعبّر عنها بطريفة بسيطة، ونصحه بألا يقع في مصيدة العبارات البرّاقة، وأن يكتب بالضبط كما يتكلّم، وأن يقرأ كثيراً، وأن يًتقن لُغة أجنبية فهي الجسر الذي يعبر عليه إلى رحاب التُراث العالمي. ثم أن الولد الشقي يعترف بأنه في بداية تعلّقه وأصدقائه بالثقافة، بدّدوا الأيام في مناقشات بيزنطية وديالوجات سخيفة، وتصوّروا أنهم ملكوا كنوز المعرفة، ولكنهم حين اكتشفوا الحقيقة بعد ذلك أدركوا، كما قال: “أن العُمر قد ولّى وأن الوقت قد فات، وأن الحقيقة التي اكتشفناها بعد فوات الأوان، هي أننا لا نعرف شيئاً، وأن الكُتب كثيرة والعُمر قصير، وأن المعرفة طريق ليس له نهاية”. ومن تجاربه في الحياة أدرك أن الكوارث مع سوئها تُعلّم النفس الصفاء، وأن المصائب هي سِرّ السكينة والهدوء، وأن الحياة لا تصفو لأحد، ولذلك يخلص بقوله: “أن الحياة إذا ضاقت، ضاقت الأرض بما رحُبت، وإذا انفرجت أعطت من حيث لا تدري، والدنيا كما في الأمثال: “إن أقبلت باض الحمام على الوتد، وإن أدبرت بال الحمار على الأسد”!