مسؤوليَّةُ النَّقد السُّعودي.

لا يكتملُ المشهد الثَّقافي إلا بحضُور الناقد، سواء في وسائلِ التواصل وبرامجِ السوشيال ميديا، أو على قنواتِ الفضائيات والصُّحف والمجلات والبودكاست، أو في الحواراتِ والندوات والمشاركات، فحيثُما يتواجد الإبداع يترافقُ معه النَّقد، لأن العلاقةَ بينهما علاقة تعاون؛ إذ كلُّ واحد منهما يساهمُ في دفع الآخر، وإعطائه مسَاحة من القول، بخلاف العلاقةِ بين الإبداع والإبداع، التي تقومُ على التَّنافُس، وإغلاق بابِ القول. التَّنافُس والتَّعاونُ حالتان ثقافيتان لا بدَّ منهما للمشهد؛ كي يستمرَّ بحيوية واندفاع، إذ عبرهما يستطيع الإبداعُ الارتقاءَ والتطوُّر، وإيجاد حلُول لمشكلاته، كما يتمكَّن النقد من قراءة الإبداعِ قراءة فاحِصة ودقيقة؛ تؤدِّي إلى اكتشاف نُقاط قوته وُنقاط ضعفه، ثم العمل على علاجها، وإصلاحها، ورفدِ البيئة بما تحتاجُ إليه من حلُول. المشكلاتُ الإبداعية تحتاج ناقداً قادراً على امتلاكِ رؤية تتمايزُ عن رؤية المبدعين؛ تقوم على التمكُّن من تقديم حلول مُختلِفة ومُبتكَرة؛ تؤدِّي إلى تطوير وارتقاءِ البيئة، والانتقالِ بها إلى الأفضل والأكمل، وهو ما يطرحُ إشكالية «الاختيار» لمن يقدِّمون القراءات ويتحدَّثون عن الإبداعات، ناهيكَ عن تقييمها وإعطائها تصنيفاً، ضمن بيئتها وبينَ مُبدعِيها. المبدعُ يتنافس مع المبدِع، حيث العلاقةُ بينهما ترتكز على أساسِ «التجاوز»، فكلُّ واحد منهما يتجاوزُ إبداع الآخر ولا ينظرُ إليه؛ لأنه يرى في نفسه القُدرة على مجاراته والتَّفوُّق عليه، وهي الرؤيةُ التي تحمل «عُقَد» الذات وتضخُّمها لدى المبدِع، بينما لا يحملها النَّاقد؛ لعدم تنافسه معه، ولأنه يؤمن بتفرُّد الإبداع، وأنَّ المبدعِين «يتفاوتون» في مستوياتهم، وتقييمُهم يأتي بناء على تفاوتهم. تفاوتُ الإبداعِ يحملُ أساس «التنافس» بينَ المبدعين، كما يحملُ أساس «التعاون» بين المبدعين والنُّقاد، ولأن التنافس والتعاون أساسُ بناء المشهد، والطريقةُ التي تسير بها البيئةُ في نموها واتِّساعها وتنوُّعها؛ ستغدو مسألةُ اختيارِ الفاعلين والمشاركين والمؤثرين في السَّاحة على درجة عالية من الأهميَّة، حيث سيعدُّ الاختيارُ الخاطئ مؤثراً على المشهد. ما يحصلُ في الندوات والحواراتِ والمسابقات والمشاركَات، يُفترض أن يسير على أساسِ الموازنة بينَ التنافس والتعاون؛ حيث الإبداعُ يتنافس مع الإبداع، بينما النَّقد يتعاون مع الإبداع، وهذه هي المعادلةُ المثالية، التي يتمُّ التغاضي عنها وتجاوزها، فيتمُّ إدراج المبدعين في أدوارٍ لا ينبغي عليهم ممارستها، ما يؤدِّي إلى «تراجُع» المشهد وتعثُّره. تراجعُ المشهد؛ انتكَاسة لجهود القائمين عليه، وتقلِيص لحضوره وفاعليَّته في البيئة؛ ما يشير إلى أهميَّة الاختيار وضرُورة «التنوع»، وهما أمرانِ ينبغي التَّأكيد عليهما في كلِّ مناسبة، سواء تعلَّقت بالإبداع أم بالنَّقد أم بكليهما، فالتَّغاضي عنهما يقودُ إلى تراجُع التأثير الإبداعي، واقتِصَاره على أفراد محدُودين، ينتمون إلى هذه الجماعةِ أو تلك. يقاسُ نجاح العملِ الإبداعي بالابتكَار، بينما يقاسُ نجاح العملِ النقدي بالقُدرة على اكتشافِ أماكن الابتكَار وإبرازها، لهذا هما يشتغلان ضِمن فضاءين مُختلِفَين، فلا يلتقيان إلا حول الابتكَارات الإبداعيَّة، التي أخطأ صانعُ المشهد حين أسندَ اكتشافها إلى المبدع دُون النَّاقد؛ معتقداً أنه أقدرُ على تنفيذها، ومتناسياً التنافس بينَ المبدعين أنفسهم، التي تعني «حجب» إبداعاتِ الآخرين. اختيارُ النقاد والمبدعين لإحياءِ الفعاليَّات المتنوعة مسؤوليةُ صانع المشهد، الذي ينبغي عليه إحداثَ توازن بين حضُور الاثنين، فلا يسند مسؤوليَّات أحدهما إلى الآخر، وإلا تسبَّب في تراجُع المشهد وتعثُّره، وهو ما يُرى في المناسبات المختلفة، التي تخلُو من الحضُور المتوازن؛ حيثُ تنتهي بمعارك بين الأُدباء، أساسُها «اختلاف» الآراءِ والأذواق. مسؤوليَّة النقد يتحملها النَّاقد، وإسنادها إلى المبدع خِيانة وتراجُع؛ لأن النَّاقد أقدر على الإمساكِ بأماكن القوة والضَّعف وإصلاحها، وهو ما تفتقدُه البيئة حين يُدعى إلى فعاليَّة أو مبادرة أو مُسابقة.