في ديوان (العشبُ يُشبهنا والغَيم) للشاعر علي الشعالي ..
رســم الشعـر علـى هيئــة الموسيقى .

الشعر ليس هو الحياة بل هو شيء ما يشبهها في آنية حضور العشب الذي يشبهنا والغيم كذلك رغم استمرارية الحياة كأن الحياة تعبر عن نفسها في تكرار هذا الحضور، كانت فكرة الشاعر الموسيقى قبل أن تتحول الكلمات الى شعر، فهو قريب الى الموسيقى وقريب الى الشعر وما بينهما التشكيل ،فالعنوان عبارة عن ومضة مشرقة وساحرة مليئة بالمعنى، تنتمي إلى السعي الإبداعي المرئي، متناغمه مع الأدراك البصري، وبعد هذا يمكننا قول الكثير عن مجال الرؤية في القصيدة، وعما يهجس به الحدس الشعري، وعن ملمس موسيقى العشب الودودة والرومانسية والشاعرية وهو يلمع بين الظل والضوء، وعن رسم الغيوم في السماء عبر إنتقالات ناعمة من نغمة إلى نغمة في نفس اللحن على مقام الحياة، فيبتكر مزيجاً متناغماً بتموجات صغيرة، هذا ما دونه الشاعر علي الشعالي في ديوانه (العشبُ يُشبهنا والغَيم) والصادر عن دار اللوهة للنشر، دبي، الإمارات العربية المتحدة عام 2023، والذي قدم له بهذه المقدمة المستوحاة من الموسيقى المليئة بالحيوية، وهذا يذكرنا بشاعر البيانو شوبان ومقطوعته الحالمة، وهي أيضا قريبة من موسيقى وديبوسيه، بتدرجاتها الصوتية التتابعية المكثفة حيث تحاكي الاحلام في دَفْقِها الحَفيل، وانزياحاتِ المعنى..، والى الشعر فيقول الشاعر: إلى الأحلام في دَفْقِها الحَفيل، وانزياحاتِ المعنى.. إلى الشعر. حضور الصباح في كثافته الكلية قصيدة نارنج نموذجاً هكذا يضعنا الشاعر بين ضفتي الشعر والموسيقى أضافة الى ضفة ثالثة هي التشكيل، فيظهر الصباح على تموجات اللون البرتقالي المتفائل والنابضة بالحيوية في القصيدة على لون النارنج وسيمياء رائحته تؤكد حضوره على احتمالات الموسيقى وتحيله على المعنى، وتوالى الحضور على مسرح الحياة فنجان قهوة، فنجانان فيكتمل المشهد، وتكتمل الفكر في المشهد الصباحي في حضوره الكثيف فيقول الشاعر: فنجان داكن.. فنجانان اثنان، ها هي مسرحية الصباح تبدأ من جديد. ومثلما رسم جورجيو دي شيريكو في لوحاته الميتافزيقية القطارات على شكل أفكار تأتي من زمن بعيد صامت، رسم الشاعر علي الشعالي هذه الأفكار أو فكرة الزمن على شكل قطارات أيضاً، فقطار يحرث رأسه واخر ينتظر العبور: قطار يحرث رأسي، يُفرغ رئتيه بعويل ناعم، قطار قديم فاتته المواعيد كلها، وآخر ينتظر العبور. الشاعر لديه القدرة على رؤية الجمال في فكرة الصباح وتحويل قصيدته الى نص تشكيلي بأسلوب فني ومعالجته التشكيلية شكلاً جمالياً، تسهل فهم المعنى من خلال حركة دائرية بين النص نفسه ومعناه، فتبدأ الرحلة من الصباح وإلى الحياة، وهذا يجعلنا نتساءل من أين جاء الشاعر بهذه التفاصيل غير المتوقعة للمشهد الذي رسمه في القصيدة، فيجعلنا نشعر بتلك الإيقاعات الداخلية العميقة فهو رفع الحدود بين الموسيقى والشعر: يغادر بيته تعيده الضجة إليه، قبل أن يبلع ريقه مرتين. لغته نارنج ناضح، يعصرها الملآنون، يرشونها على ثيابهم المطوية بعناية، لغة مرّة.. لا تُشبع أحدا. كأن هذا المقطع مقابل لغوي للإحساس بموسيقى الضوء الإيقاعية المبهرة التي يكمن في تشكيل نسقه الشفيف هذا التشكيل او التجريد والذي يحوله الى شعر محض، هذه الموسيقى التي بدت كمقطوعة سحرية خالصة، ويبدو أنها لامست الروح والوجدان بشكل ما بهذه اللحظة للأبد، كأن الفكرة تتأرجح بين الغياب والحضور في هذا الصباح الشتائي: سطوع.. خفوت سطوع.. جفنان معلّقان، زنزانة بجدران مبطّنة، ما أخبثَ الإسفنج حين يتواطأ مع العزلة. لولا الموسيقى لانطفأ السراج، أقسمَ ورأسه يتدلّى ذابلًًا، رجلاه طافيتان. في هذه القصيدة عبر رموزها ومجازاتها البصرية التي تعكس روح النص جعلنا الشاعر نتساءل، كيف غير قناعة الكلمات وجعلها تمارس شغفها بالموسيقى...؟ وهي ترسم اللحظة من البرتقالي الى الضوء الدافئ لدوار الشمس، كمن يغير قناعة الأبيض في بياضه ويجعله يحلم بالأزرق المتماوج مع هيجان اللازورد، الساعي الوصول إلى ذاته ترميم الذات في فضاءات الوجود قصيدة جاكوتيه نموذجا جاكوتيه الشاعر والمترجم السويسري الفرنكوفوني، الذي آثر الرحيل على أن يرى الإنسان راكعًا أمام الجوائح، ويسمى ب (شاعر الهشاشة والامّحاء) صور جياكوميتي في منحوتته (رجل يمشي (جسدا نحيلا ممتدا، شبه مهشم، يتحرك في فراغٍ موحش لكنه لا يصل، وكأنه عالق في زمنٍ لا نهائي، التمثال يعكس رؤية وجودية للإنسان المعزول في عالمٍ لا معنى له، حيث الجسد يشبه ظلا أو شبحا يتهادى بين العدم والوجود وفي لغة شعرية مكثفة تعتمد على الإيحاء والمجاز الرمزي قدم الشعالي (جاكوتيه) رجل الشجرة” ككائنٍ هجين يذوب في الطبيعة (“سمكة تنزلق إلى الزرقة”، “تماهى مع العشب”)، في إشارة إلى هشاشة الهوية الإنسانية واندماجها في فوضى الوجود. فكلا العملين يجسدان فكرة التشرذم الوجودي فالشاعر رسم لوحة استعارية مكثفة، تختزل صراع الذات بين ثنائيات الوجود، فتبدأ القصيدة بتعريف الغائب المتخيل: “أعرف هذا المعدن، / رجلٌ شجرة”، حيث يتحول الجسد إلى كائنٍ نباتيٍّ معدنيٍّ، جامدٍ وحيٍّ في آن. هذا التمازج بين العضوي والمصنوع يُشير إلى محاولة الذات استعادةَ نقائها الأولي عبر الاندماج بالطبيعة: على كتفه تحطّ العصافير.. تنتصت إلى أنفاســــــه.. تغـــــــزل صمتَــــــه تغــــاريدَ للصحــــو، ومعاطــــفَ للشتــــاء على كتفه العصافير هنا ليست مجرد كائنات طبيعية، بل رموز للبراءة والإيقاعات البسيطة التي تنسجها الحياة بعيدًا عن تعقيدات المدنية. الصمت الذي “تُغزله” العصافير يصبح لغة بديلة عن ضجيج باريس الذي يُثقل كاهل الشاعر: “أصابه دوار باريس.. / اليَثمل الحيرى بِضجيجها”. المفارقة بين هدوء الطبيعة وصرخة الحضر تُظهر أزمةَ التنفس في عالم ملوث (“رئتيْه الخضراوين / لا تتسعان لهوائها المُكربَن”)، وكأن الشاعر يستعيدُ أسطورةَ أدونيس الذي يموت ويُبعث من الطبيعة. الذوبان كفعل خلاص وفي المقطع الثاني من القصيدة، تتحول الذات إلى سائلٍ يذوب في العناصر: قطرةُ نبيذٍ في وَريد عاشق.. سمكة تنزلق إلى الزرقة.. تختفي لتحيى الاختفاء هنا ليس فنائياً، بل تحول نحو الوجود الأكثر نقاء. فالانزياح المجازي (“تماهى مع العشب و«الماء السريع»”) يكرس فكرة أن الخلاص يكمن في التخلي عن الثبات والانصهار في حركة الكون. هذا الانزياح يتوازى مع فلسفة “الامّحاء” التي يهمس بها النسيم: “الامّحاءُ سبيل الترقّي.. / الذوبانُ الألق”. فالشاعر لا يرى في الفناء نهاية، بل ارتقاء عبر التحرر من حدود الجسد والهوية. عن الشعر والموسيقى والتشكيل وأشياء أخرى قصيدة نوافذ نموذجاً يأتي عنوان القصيدة “نوافذ” حاملاً دلالات متعددة، فالنوافذ ترمز إلى الانفتاح والرؤية، إلى الداخل والخارج، إلى الحياة والمصير. كما أنها وسيلة للتأمل والتفاعل مع الواقع، حيث يمكن للإنسان أن يطل على ما هو خارج ذاته أو يغلقها ليحتمي بعالمه الداخلي. تعتمد القصيدة على أسلوب التكثيف والصورة المشهدية، حيث تبدو كأنها لوحات متتابعة، كل منها يحمل دلالة مستقلة لكنه في النهاية يشكل جزءا من الصورة الكلية للنص، كما يستخدم الشاعر لغة بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في إيحاءاتها، وهو ما يجعل القصيدة زاخرة بالرموز والاستعارات القابلة للتأويل بأكثر من شكل، وكأنها أوركسترا ناعمة بموسيقى ذات نغمات تصاعدية ، فهي قريبة من لوحة (النافذة المفتوحة) لهنري ماتيس وبعيدة عن نافذة رينيه ماغريت الوهمية في لوحته (حالة أنسانية) ،فالنافذة لدى الشعالي ليست مجرد فتحة في الجدار، بل كائن حي: “وشجرة أخرى.. جوارها نوافذ، مشرعة بأذرع تعرفينها.” “لو كنتكِ... لأفرغت عُلبة الألوان، وأتممت ما بدأ القدر.” هنا، يمنح الشاعرالمتلقي فرصة للتأويل، فهو يترك الباب مفتوحًا أمام الاحتمالات، ويوحي بأن القدر يرسم ملامح الواقع، لكن الإنسان يمكنه التدخل لإكمال اللوحة بطريقته الخاصة، في دعوة إلى الإبداع والمشاركة في تشكيل المصير. تجربة الشاعر يقدم الشاعر علي الشعالي في ديوانه (العشبُ يُشبهنا والغَيم)، لوحات شعرية مكثفة، وصور بلاغية مبتكرة تلامس الروح والوجدان، وتعكس تجربة غنية تعبر عن حالة من التماهي بين الذات والعالم الخارجي، حيث تتداخل الصور الشعرية مع المشاعر الإنسانية العميقة لتخلق نصاً غنياً بالرمزية والتأملات الفلسفية، حيث تصبح الصور الشعرية رموزاً مركزية تعبر عن حالات الإنسان الداخلية وتناقضاته، وسنجد في الديوان أن الموسيقى في الديوان مؤكدة وليست فرض احتمال ، فهو رسم الشعر على هيئة الموسيقى ، مما يجعل الديوان إضافة قيمة إلى المكتبة الشعرية العربية، ويستحق القراءة والتأمل فهو عملاً إبداعياً يجمع بين التأمل الفلسفي ورؤى الحداثة والمستقبل