كرنفالُ السِّينما الحدِيثة.

تتنوعُ الاتجاهات في السينما الحديثة ما بينَ الكُوميديا والدراما والفنتازيا والخيال العِلمي والرعب والعائلي والغموض وغيرها، ولكلِّ نوع سماتٌ تميزه عن البقية، فلا يختلطُ الغموض بالإثارة والحركَة بالدراما والفنتازيا بالكُوميديا، ورغم ذلك يصعبُ الفصل بينها بصُورة تامة، إذ كثيرٌ منها متداخِل متمازج. التمازجُ بين الأنواع المختلفة يشير إلى استلالها من الحياةِ ذاتها، حيث “الأدب قطعة من الحياة”، تحوي تفاصيلها واختلافاتها وتناقُضاتها ومآسِيها وأفراحها، وقد تشتركُ التناقضات وتتلاقى الأفراحُ بالأحزان، وتحصل أحداثٌ غير متوقعة ولا يمكنُ التنبؤ بها. في مجالِ السينما، والتلفزيون على وجهِ الخصوص، برزت الكُوميديا كعامل جذب للمشاهدين، بما تقدِّمه من ترفيه وإسعاد ورسمٍ للبسمة بعد يوم عملٍ شاق، وتنقسم إلى هادفةٍ وهازلة؛ حيث الهادفة تسعى إلى إدراج الأبطالِ في مواقف حياتية تظهرُ التناقُض الوجودي والاختلاف الحاصل بينهم وبينَ الآخرين، أما الهازلة فتعتمدُ على البلاغة واستعمال اللفظِ بالاستعارة والكناية والتورية، دون الدخولِ في مواقف حياتية. النوعانِ موجودان منذ القديم ويختلفُ استعمالهما ما بين سِينما وأخرى وتلفزيون وآخر، بل وما بين كَاتب وكاتب؛ لكونهما يمثِّلان اتجاهات في الكتابة وكيفيَّة صناعة الحدث قبل أن يرتبطا بالشاشة ويُساهما في إنتاج موادها، وهو الأمر الضَّاغط في الزمن المعاصر؛ بسببِ الانتشار الواسع للشاشات وعدم قُدرة الأفراد على تركها. الحياةُ تتجه إلى الترفيه ورسمِ البسمة، لهذا تحتاج مزيداً من المواد التي تساعدُ على ذلك، وصناعة التلفزيون تقدِّم المساعدة في هذا الأمر، فالاتجاهُ نحو التمثيل والعناية به وتطويره تعدُّ من الأولويات، ولن تكتفي بما تقدِّمه الدولة من تسهيلات، بل ستضيفُ خبرة الأشخاص وشغفهم، خصوصاً أن كل فردٍ بات يمتلك كاميرا، يسجلُ بها المشهد الذي يريد في الوقتِ الذي يريد. قد يبدو هُنالك نوع من الفوضى في التصوير والبَث، لكن ما يبدو أمام الناس ليس حقيقيًّا تماماً؛ حيث الحياةُ لا تتوقف في زمن الشاشة، بل تستمرُ في الدوران وبسرعةٍ عالية، فتحتاج من الفرد اللحاقَ بها، وهو ما يفعله حينما يلجأُ إلى متابعة ما يستجدُّ، أو مشاهدة ما يُطرح. ربما تكونُ السينما أكثر إحكاماً وتأثيراً على المشاهد بسبب ما تمتلكُه من إمكانيَّات وتجهيزات، لكن ذلك لا ينفي قوَّة البث المباشر الذي يقومُ به البعض، فمن خلالِ أدواتهم البسيطة استطاعوا التأثير على عددٍ غير قليل، والسبب يعودُ إلى الطبيعة التلقائيَّة وغير المتكلفةِ التي يتفاعلون بها، فحياتهم الافتراضيَّة تبدو حقيقيَّة للغاية. الحقيقيَّة في الطرح والتمثيل تعتبرُ من أقوى المؤثرات على المشاهدين، فإذا شعروا أنهم لا يشاهدون خيالاً أو انفعالاً زائفاً أو حدثاً مبالغاً فيه سينجذبون أكثر؛ لأن الطبيعة البشرية تميلُ لما يشبهها وتتعاطفُ مع المواقف والأحداثِ التي تواجهها، لذا حينما تندرجُ الكوميديا في موقف من المواقف ستلاقي صدىً واسعاً ومتابعة كبيرة. الموقفُ الكوميدي له دور رئيس في جذبِ المشاهدين والتأثير عليهم، إذ كلما تقلَّصت الانفعالات الزائفة والمبالغات الزائدةُ تم قبوله والاستفادة منه، حيث الهدف ليسَ رسم بسمةٍ ومحو تعب فحسب، بل نقلَ فائدة وإيصال رسالة، وهو الشيءُ الذي يجعل للفن قيمة ويُعطيه أهمية. قيمةُ الفن وأهميته لا تبرز من خلالِ العبثية والفوضوية أو اللجوء إلى المشاكساتِ اللفظية والبلاغية، عبر استعمالِ الاستعارات والكنايات والتوريات، التي تظلُّ لها قيمتها وأهميتها البالغة، لكنها حِينما لا تتصل بموقفٍ ستقل كثيراً، وستغدو لوناً من السذاجة واللا جدوى. الفنونُ أبناء الزمان، وما انتشارُ اللا جدوى بين كتابات الأدباءِ وأفلام الممثلين؛ إلا نتيجةٌ حتمية لما يحدث في الواقع، حيث يتداخلُ ويتمازج كل شيء في كرنفالٍ كبير لا يتوقف.