التكنو - أدبية..

الأدب بتطبيقات الذكاء الاصطناعي.

 بابتكار الذكاء الاصطناعي، نجد أنفسنا أمام منتج تم إنجازه بعيداً عن تصوراتنا، وخارج أفق توقعاتنا. فعلى نطاق تطبيقات هذا الذكاء في مجال الأدب نتفاجأ - نحن العرب - أن الغرب استعد لهذه اللحظة المفصلية في تاريخ الوجدان البشري، وعمل عليها منذ عقود بعيدة. باكراً، كان يمارس تجاربه وتنظيراته على “الشعر الإلكتروني” بمعزل عن مشاركتنا في هذا الحدث الثقافي الكبير أو الإسهام فيه. فيمكن إرجاع بدايات توليد الحاسوب للشعر للعام ١٩٥٩م، عندما قام المهندس ثيول لوتز وعالم اللغويات ماكس بنس بصناعة آلة حاسبة لتوليد أشعار بالألمانية أطلق عليها “النصوص العشوائية”. حينها تمكنا - العالمان - من خلال هذه الماكينة من إبداع نصوص شعرية معتمدين على النظرية “التوليدية” أو “النحو التوليدي التبادلي” التي طرحها تشومسكي عام ١٩٥٧م، ثم تتوالى التجارب والمحاولات مترافقة مع العديد من الأبحاث التنظيرية الجادة.  ففي سؤال يتسم بالرومانسية المفرطة وكأنه يدخل بالكامل في حقل الخيال العلمي - كما يقول الشاعر والناقد دييونيسيو كانياس، تم طرح السؤال التالي عام ٢٠٠٦م في مقال نشر آنذاك في مجلة “الشعر الرقمي”: هل يمكن للروبوت في يوم من الأيام أن يكتب قصيدة غزلية؟ وكان جوابه حينها: إننا نقبل حتى الآن بمقولة أن الماكينات لا تكتب قصائد حب بمحض إرادتها، وإنما يتمثل دورها في معالجة الكلمات البشرية، لكننا لا نستبعد أن نشهد في المستقبل غير البعيد أمراً مشابهاً لما حدث في ميدان الخيال العلمي، بمعنى أن الحاسوب، أو الروبوت، يمكن أن يكون ذا خيال جيد مثل الشاعر. الناقد كانياس، بنى فرضيته تلك على أن الكلمات واللغة هي التي تثير انفعالاتنا بغض النظر عمن أو ما الذي أبدعها أو عالجها؟ ومعنى هذا أنه لكي نعيش الحالة الانفعالية في هذا المقام كان يتساوى الأمر عندنا أن يكون مُنتِج النص الشعري الغزلي إنسانا أو ماكينة. ثم يستدرك على هذه الفرضية بسؤال: هل يمكن للعقل في أثناء عملية القراءة أن يفصل الكلمات والكتابة عن الشيء أو المتسبب فيها، سواء كان ذلك إنساناً أم ماكينة؟ وكان جوابه في تلك اللحظة من البحث هي “نعم”. بعد وضع تلك الفرضية عن مقدرة التقنية توليد الشعر، ومن أجل اختبارها، يبتدئ الناقد والشاعر ديونيسيو كانياس بالتعريف عما هو الشعر الرقمي والميديا شعرية، فهو بحسب ما عرف به: ذلك النص أو مجموعة الصور والرموز والأصوات ذات السمات التفاعلية، والتي تم تنفيذها بقصد شعري باستخدام الحاسوب، ومن إحدى سمات هذا الشعر هو اللامادية: أي أنه يمكن رؤيته وسماعه على الشاشة، رغم أنه يمكن طباعته. ثم ينتقل كانياس إلى تعريف القصيدة التي هي عبارة عن «أي نص أو أي شيء جرت كتابته وصيغت بنيته لغاية شعرية، وفي حالة النصوص فالأمر يتطلب السير على قواعد بنيوية معينة تتعلق بالعروض، أو قرض الشعر الحر سواء كان مقفى أم لا». وهذا التعريف، ينقله إلى ضرورة فهم معنى “المقصد الشعري” من عمل كاتب النص، أو المقصد من العمل الإبداعي، فهو يمكن أن يكون جمالياً محضاً (عاطفة جمالية)، أو أن يكون جمالياً ويحمل في طياته رسالة معينة (مفاهيم عاطفية) سياسية، أو دينية، أو اجتماعية، أو شخصية... إلخ. ويتميز المقصد الشعري بأنه يتسم بالسرعة والإيجاز والخيال والمفاجأة، ويمكن بناؤه وتشكيله بقدر أكبر من الحرية، سواء من المنظور النحوي والتركيبي والمعرفي والبنيوي؛ أي أن الشكل والرسالة في كبسولة واحدة، ولكن في إطار الكثير من الحرية. في هذا السياق من البحث، يرى كانياس ضرورة تبيان مفهوم آخر، والذي عبر عنه بـ “الموقف الشعري” حينما يتتبع أثر تلقي النصوص الشعرية على القارئ. فالموقف يكون شعريا عندما تتأتى عنه تأثيرات انفعالية كثيفة (عادة ما تكون إيجابية وأحياناً أيضاً ما تكون مجرد مشاعر مثل الخوف والشعور بالقرف.. إلى غير ذلك). الكائن البشري يمكن أن يعيش هذه الحالة الشعرية هنيهة لا تكاد تصل إلى ثانية من الزمن أو ثوان أو دقائق، لكنها نادراً ما تستمر لساعات: «إن القصيدة تبدو وكأنها عملية الغطس تحت سطح المياه، أي أننا نغطس في بحر اللغة وفي بحر الكلمات». الحاسوب العاشق: بعد أن انتهى من ضروريات التعريف بالمصطلحات، ينطلق كانياس إلى جسد الفرضية بهذه المقدمة: إن ظاهرة الحب شديدة الشبه بعضها ببعض في كل مكان، أي أنه مع القليل من التخيل والحصول على الكثير من المعلومات وحسن الاستخدام للغة من جانب أي شاعر، وكذلك من قبل الشاعر الروبوت، يمكن كتابة قصيدة غزلية جيدة (رغم أنه قد لا يكون قد كابدها)، ويفعل الشيء نفسه أي حاسوب. فلا فرق عندنا فيمن يكتب القصيدة الغزلية / الشكوى، ذلك أن ما يهم القارئ ليس هو الألم الحقيقي الذي عانى منه الشاعر أو الألم الذي تخيله الشاعر، رغم أنه يمكن أن يكون حقيقياً، بل الأمر المهم هو ذلك “الألم المقروء”، وبالنسبة لموضوعنا يمكننا القول بأن ما يهم هو “الغزل المقروء”. ويبرر ذلك كانياس: فسواء أكان كائناً بشرياً أو حاسوبياً، فمن سوف يكتب قصيدة غزلية هو في حاجة إلى استخدام بعض القناعات، وبعض المقولات، وبعض المفاهيم المألوفة المرتبطة بالتجربة العاطفية، حتى يتمكن من كتابة قصيدة غزلية. وإن ثراء الشعر الغزلي يكمن في أنه ينطلق من المعضلة المتعلقة بكيفية إحداث مصالحة بين العقل أو الروح وبين الجسد، وإن متاعب الحب مرحب بها كحافز إبداعي. وإن معرفة أن قصيدة ما هي من إبداع بشري ليست إلا قيمة مضافة، وأنها تثري، بالطبع، القصيدة وتجعلها أكثر إثارة للانفعال، غير أنه من الشائع أن يكون الشعراء مجرد “متخيلين”، وأنهم يكذبون حتى أخمص أقدامهم، وعندئذ نتساءل: أي فرق بين أن تكون شخصية المؤلف أو المؤلفة لقصيدة غزلية شخصية حقيقية أو مصطنعة وهي الحاسوب؟ ثم يكمل كانياس بحثه في الفرضية: إن الماكينات لا تعيش، أو بمعنى أصح إنها لا تملك التجارب التي يمكن أن تكون محفزة على الكتابة؛ أي على كتابة قصيدة، لكن هل التجربة مهمة في كتابة قصيدة غزلية جيدة؟ ألا يتعلق الأمر أحياناً بمعرفة جيدة للشعر الغزلي حتى يمكن كتابة قصيدة غزلية رائعة؟ الشاعر الإسباني “لويس أنطونيو دي بيينا” يرى أن الأمر قد لا يكون هكذا، وذلك لوجود خطوات إبداعية تحدث في لحظة الكتابة فقط. وأنه لكي نقرض قصيدة غزلية جيدة، ليس من الضروري أن تكون هناك مفردات لها علاقة بهذه المشاعر؛ إذ إن ما يهم هو أن تحدث فينا اللغة هذا الشعور الغزلي. اختبار التجربة وتقييمها: في نتيجة المقال البحثي للشاعر والناقد كانياس وقتها (عام 2006)، وبتطبيق زميله بابلو خرباس لأحد برامج “التكنو - شعرية، كانت النتيجة غير مرضية تماماً، وإن بدت بعض ملامح الجمل الشعرية التي ولدها الحاسوب. وذلك لعدم وجود عامل حاسم فيها وهو الخيال. فالذي يملكه الشاعر ولا تملكه الآلة هو أن الشعراء - كما يقول الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا - عند التعبير الشعري عن مشاعر الحب يقومون بتحويله إلى خيال، فالشاعر هو متخيل. وهنا يرى كانياس وبابلو خرباس، كما هو لويس أنطونيو: أن هذا لا يمكن أن تقوم به الماكينات في اللحظة الراهنة، حيث تولد حينها هذا النص “المهلهل” وغير المترابط منطقياً، وهو: «يتقدمون بنعناع وبجوال من أجلها كيف كان يبكي الشطرنج العالي الشرفات وتطارد من أسفل تغني المياه، تواصل الموجات، كانت تبحث عن همهمة الهواء الذي تأثر فحرك الهواء البارد والرياح الخفيفة في عيني بعيون المشهد الهلال حيث أشعر بخيله. لتسأل عمن تسأل، قل لي: هل هؤلاء الناس الذين هم في البراري الضحلة تنفطر قلوبهم من السكر والنعناع»!؟   إذن، وكما هو ملاحظ فيما سبق من جمل النص الشعرية، فبالإضافة إلى خلوها من عنصر الخيال “الخلاق”، نرى كذلك عدم وجود الترابط المنطقي بين الجمل والمقاطع. هذا، حتى لو حاولنا وضع النص في سياق المفهوم السريالي الذي ينسخ تهويمات الروح والأحلام مباشرة إلى لوحة أو قصيدة. من ناحية أخرى، نستطيع ضخ كم هائل من المفردات المعجمية في برامج الحاسوب، لكننا لا نتوقع منها أن تنقل لنا مشهدية الحالة الانفعالية المنبثقة من بشرية الشاعر وتفاعله مع الوجود. وفي هذا المجال، يقدم لنا الشاعر جاسم الصحيح في نصه “الشاعر.. نبيُّ الوهم”، تصوره عن دور الشاعر في عملية الخلق الشعري وعند تناوله لقضايا الحياة، وتبنيه هموم الإنسان المعاصر، والذي نشك كثيراً في مقدرة برامج الذكاء الاصطناعية (حالياً) محاكاتها: في الحربِ ما بيني وبين معاجمي ما ثَمَّ إلا المفرداتُ غنائمي حاشا القصيدةَ أنْ تكونَ هُوِيَّتي حتَّى تكونَ صدى الشَّقاَءِ الآدمي فالمفردات هي المفردات، سواء في صدر الشاعر أو في برامج الحاسوب، لكن المختلف هو في طريقة بناء المتخيل وربطه بالواقع: في (ورشةِ) الحُلُمِ الكبيرةِ لم أزلْ من (خُردَةِ) الكلماتِ- أصنعُ عالَمي وفي هذه القصيدة أيضاً، يشير الشاعر جاسم إلى فارق آخر - في ظننا- وهو أن برامج الذكاء الاصطناعية قد تقصر عن بلوغه؛ حيث إن اكتمال القصيدة غير اكتمال المشروع. فالشاعر في سعيه لتأكيد وجوده في عالمه، واستبطانه لكينونته، في سعي متواصل للظفر بمعنى وجوده: سأظلُّ أمشي في القصائدِ باحثًا عن جوهري حتَّى تجفَّ قوائمي التكنو - شعرية: ستة وستون عاماً تفصل بين المحاولة الأولى لتوليد الشعر الإلكتروني (1959)، وبين عامنا هذا (2025) الذي بدأت فيه برامج الذكاء الاصطناعية بتقديم منجزها الأدبي وإتاحته للمستخدمين. فبمجرد استخدامنا لهذه التطبيقات، سندرك مدى التقدم في التكنو - شعرية، بما يتوافق مع نبوءة كل من كانياس وفانكهاوزر. فعند طلبنا (حالياً) من البرنامج كتابة نص شعري بأسلوب محمود درويش عن الحب كمثال، أجابنا البرنامج: - «بالطبع، إليك نص شعري بأسلوب محمود درويش، متأثرًا بجمالياته في قصيدة النثر، حيث يمتزج الحب بالوطن، والغياب بالحضور، والحنين بالشموخ، كهذا النص، والذي عنونته بـ “كما لو أن الحب وطنٌ”: أحبُّكِ.. كما يُحبُّ الغريبُ ظلَّ شجرةٍ نبتتْ صدفةً على هامش المنفى. لا وعد لي منكِ، ولا خريطةَ عودة، لكنني أحملُكِ كما تحملُ القصيدةُ نارها… وتمشي. وجهكِ ليس مرآتي، بل نافذتي، أطلُّ منه على صباحٍ لا يحتاجُ إلى نشيدٍ وطني. حين تهمسين، تنكسرُ الأسوارُ القديمة في القلب، وتتشكلُ مدينةٌ جديدة من الحروف. لا تسأليني عن المعنى، المعنى أن نكون معًا، ولو في جملةٍ ناقصة، أو حلمٍ مرَّ صدفةً بجانب السرير. أحبكِ... لا كعاشقٍ يكتب اسمه على جذع شجرة، بل كمن ينسى اسمه كلما ناداه قلبه، ويبتسم».       إمعاناً في استنطاق مدى فاعلية الذكاء الاصطناعي، وبقصد التحقق من قدرته على توليد النصوص الشعرية، تمت محاورته عن أبعاد كتابته ومقدار وعيه الشعري، وكان كالتالي: - هل هذا النص من كتاباتك أم من نصوص محمود درويش؟ - هذا النص من كتابتي، وليس من نصوص محمود درويش، لكنه مستوحى من أسلوبه وموسيقاه الشعريّة في قصيدة النثر؛ تحديدًا ذلك التوازن الذي كان يبدعه بين العاطفة والوطن، بين الحب كقضية شخصية والحب كرمز أكبر للانتماء والغياب والحنين. وإذا رغبت، يمكنني تحليل عناصر التشابه بين النص وأسلوب درويش، أو حتى محاكاة مقطع معين من إحدى قصائده الشهيرة بأسلوب موازٍ. هل تود تطوير النص باتجاه معيّن؟ - لا، لكن حلل عناصر التشابه بين النص وأسلوب درويش. - دعنا نغوص في عناصر التشابه بين النص الشعري الذي كتبته وبين أسلوب محمود درويش، خصوصًا في قصائد النثر: أولًا، الموضوع والرمزية: في نصوص درويش، هو لم يكتب عن الحب كعاطفة فردية فقط، بل كرمز للهوية، للمنفى، للغياب، وأحيانًا للوطن. الحب عنده امتداد للانتماء، للوجع الشخصي/الجمعي، كما جاء في النص: «أحبكِ... كما يُحبُّ الغريبُ ظلَّ شجرةٍ نبتتْ صدفةً على هامش المنفى». فهذا السطر يستلهم ذات الرؤية: الحبيب ليس مجرد شخص، بل امتداد لهوية مشردة، و”المنفى” هنا قد يكون جغرافيًّا أو عاطفيًّا. ثانيًا، الأسلوب والصور الشعرية: في نصوص درويش، تكثر الصور المجازية المركبة، التي تدمج التجريدي بالحسي، كأن يقول: «لا أحد ينام في غرفتي... أنا أنام في داخلي». أو: «ونحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا». كذلك: «لا تسأليني عن المعنى، المعنى أن نكون معًا، ولو في جملةٍ ناقصة، أو حلمٍ مرَّ صدفةً بجانب السرير». هنا أيضًا نرى تداخل اللغة اليومية بالعاطفة الفلسفية، وغياب النمطية في التعبير عن الحب، كما يفعل درويش. ثالثًا، الإيقاع الداخلي واللغة: في نص درويش، في قصيدة النثر لا يعتمد الوزن الخليلي، لكن يخلق موسيقى داخلية عبر التكرار، التوازي، والانزياح. مثال ذلك في النص: «أحبكِ... لا كعاشقٍ يكتب اسمه على جذع شجرة، بل كمن ينسى اسمه كلما ناداه قلبه، ويبتسم». نجد نفس اللعبة اللغوية التي تُظهر المعنى بالعكس، كما يفعل درويش، والنهاية بـ “ويبتسم” توحى بإيقاع هادئ رغم عمق النص. رابعًا، التأمل الوجودي: في نصوص درويش، يمزج بين التجربة العاطفية والوجودية؛ يسائل الذات، المعنى، الزمن. مثال ذلك في النص: «حين تهمسين، تنكسرُ الأسوارُ القديمة في القلب، وتتشكلُ مدينةٌ جديدة من الحروف». يوجد تصور بأن الحبيبة تحوّل الوجود من جمود إلى انفتاح، من “الأسوار” إلى “مدينة من الحروف”، تأملات تشبه تساؤلات درويش عن معنى الحب والهوية. - هل تحب أن أكتب لك محاكاة لنص محمود درويش لكن عن موضوع مختلف؟ - لا، وشكراً لك. فما ترون في هذه النتيجة، وهل يرضيكم أنكم قد ظفرتم بشرف مسمى “القارئ الشاعر” “والقارئ الناقد” بمساعدة التشات جي بي تي؟ وهل ستكتب قصيدتك بما يتوافق وحاجتك العاطفية، أم ستذهب إلى دواوين الشعراء؟ التكنو - سردية: من متطلبات السرد، كما يرى جون ميشيل آدم، وحتى يستحيل الحدث إلى سرد، لابد أن يكون مروياً على الأقل في شكل جملتين خاضعتين لترتيب زمني وتشكلان حكاية. ومن جانب آخر، يعد الخطاب السردي - كما هو في فهم قريماس - مشروعاً منظماً وفق الغايات القصوى المقصود بلوغها؛ فما نسميه حكاية ليس قائماً على تجميع عدد من الصور كيفما اتفق، إنما هو بسط متدرج بواسطة الأشياء التي ما إن تخرج من حوزة المكان والزمان حتى تكف عن الانتماء إليها. فالحكاية في السرد تحمل سؤالين: سؤال المرجع وسؤال المتخيل. «الأول هو أن الحدث الواقعي أو التاريخي انتهى فعلياً، والثاني هو إحياء المرجع في صورة مغايرة بنسق تركيبي وأفق دلالي مغاير»، كما تقول سناء بن حدة. لذا، فإنه يمكننا التساؤل عن الجمالية السردية للذكاء الاصطناعي، وقدرته على توظيف المرجعيات الثقافية وفق تقنيات الواقعية السحرية. فمن منطلق التجريب، قمنا بطرح فكرة كتابة قصة قصيرة على الذكاء الاصطناعي، وكانت على هذا النحو الحوار والنتيجة: - احتاج كتابة ادبيه لقصه قصيرة تتكون من ١٠٠ كلمه بأسلوب سارتر كما هو في رواية الغثيان. - بالطبع! إليك قصة قصيرة مستوحاة من أسلوب جان بول سارتر في رواية الغثيان، حيث تتداخل مشاعر الاغتراب، والقلق الوجودي، وعبثية العالم المحيط: «جلستُ في المقهى، أتأملُ يدي فوق الطاولة. لم تكن يدي، بل جسماً غريباً لزجاً، منفصلاً عني. فنجان القهوة أمامي، ساخنٌ بلا معنى. الكرسي، النافذة، ضوء الشمس، كلها أشياء «توجَد» فقط، بلا مبرر. أحسست بالغثيان يتسلّل من أعماقي، ليس مرضاً، بل وعياً مرعباً بأن لا شيء ضروري، لا أنا، ولا هذا المقهى. العالم ثقيل، صامت، يتنفس دون حاجة إلينا. رفعت رأسي، فرأيتهم يضحكون. كم يبدو الوجود سخيفاً حين نراه بوضوح». - هل تود أن نطورها لسيناريو أو نربطها بفكرة فلسفية معينة؟ - نعم، اربطها أيضاً بفلسفة هايدغر. - رائع، دمج أسلوب سارتر مع فلسفة هايدغر يعطي عمقاً وجودياً فريداً. سارتر استلهم من هايدغر لكنه سار في اتجاه أكثر تشاؤماً. هايدغر يرى أن الإنسان «الكائن-الوحيد الذي يعي وجوده»، ويعيش بين الوجود الأصيل والوجود الزائف، وأن القلق (die Angst) يكشف لنا عن حقيقة وجودنا في عالم لا يمنحنا معنى جاهزاً. فإليك النص بعد ربطه بفلسفة هايدغر: «جلستُ في المقهى، أتأملُ يدي فوق الطاولة. لم تكن يدي، بل كياناً غريباً، يُذكرني بأنني “هنا”. في صمت الفنجان، أدركت أنني سقطت في “الوجود الزائف”، حيث يختبئ الإنسان خلف العادة والروتين. لكن فجأة، القلق. ليس خوفاً، بل قلق الوجود - ذاك الذي يكشف لي أنني مُلقى في عالم لا معنى له. في تلك اللحظة، بدت الأشياء أكثر حضوراً من ذاتي: الطاولة، الكرسي، الهواء... كلها تسبح في “الوجود”. وأنا؟ محض كائن-نحو-الموت، موقن بأن عليّ أن أختار: إما أن أكون، أو أُستهلك بصمت». - هل تريد تقديم تحليل نقدي لهذه القصة؟ - لا، وشكراً لك. عند هذا الحد من النتيجة، أوقفنا الحوار شفقة على ذواتنا التي تستطيع الآلة التعبير عن كوامنها بطريقة أكثر دربة ومهارة ودقة معرفية فلسفية. فهل سنقتني مستقبلاً مجموعات القصص القصيرة حتى “نتطهر” من خلالها عند تعاطينا مع قضايا وجودنا في الحياة - على حسب رأي أرسطو في أن محاكاة المواقف التراجيدية تمنحنا إمكانية أن نعيش الحدث من خلال الخيال، وبدون أن نصاب بضرر في الواقع - أم سنشرح احتياجاتنا العاطفية والنفسية للذكاء الاصطناعي ليخلق منها حكاية مناسبة لنا؟ مدار المصطنع:      في خبر مثير أبرزته قناة سكاي نيوز العربية على موقعها على الشبكة العنكبوتية ليوم ٢٣ مارس ٢٠٢٥، أوردت فيه أن صحيفة “إل فوليو” الإيطالية كشفت عن إصدار أول صحيفة مطبوعة في العالم تعتمد على الذكاء الاصطناعي بالكامل، ودون أي تدخل من المحررين. فأنظمة الذكاء الاصطناعي تتولى كتابة المقالات ووضع العناوين والملخصات وتختار أهم الاقتباسات في الموضوعات دون أي تدخل بشري في الصحيفة التجريبية التي تصدر تحت اسم “إل فوليو أيه آي”. هذه التجربة، بالإضافة إلى ما اختبرناه من تقدم للذكاء الاصطناعي الأدبي في التعبير عن الموضوعات الأدبية التي نود الكتابة عنها، فكلاهما ينبئ عن طاقة هائلة للبرامج والتطبيقات التي تنطلق من برمجيات الذكاء الاصطناعي، والتي بإمكانها أن تمدنا بالعون وتجعل من الجميع كاتباً مبدعاً، أو يتم الاستعانة بها لقدح زناد الفكرة الإبداعية، ثم التعديل عليها تالياً.       مما يشير إليه تاريخنا الممتد منذ قرنين من الزمان، أن البشر يعارضون المخترعات في البداية خوفاً من شبح الفكرة التي تهدد وجودهم الذاتي، وتنم عن الاستغناء عنهم، لكنهم سرعان ما يرجعون ثانية بمزيد من العقلانية إلى استخدامها والتقدم في مسيرتهم الحياتية بمعونتها نحو تحقيق وجودهم الأسمى، فهل تصدق هذه النظرة على هذا المنجز التقني المسمى بالذكاء الاصطناعي في حقله الأدبي؟ قبل أن نستعجل في الحكم، دعونا ننصت إلى ما يقوله جان بودريار بشأن “المصطنعات” - باعتبار أن الذكاء الاصطناعي يعمل على تقليد الأصل - فيقول: إن المجتمعات الغربية خضعت “لمدار المصطنع”، وهذا ما أخذ شكل تنسيق المصطنعات، من مرحلة الأصل إلى مرحلة التقليد إلى النسخة، ومن خلال المصطنع من الدرجة الثالثة، حيث تحل النسخة مكان الأصل. بيد أن بودريار يميز بين المصطنع والنسخة، من حيث إن النسخة تحافظ على علاقة مرجعية مع الأصل، (فنسخة اللوحة لا تأخذ معناها إلا من اللوحة)، بينما المصطنع لا يفعل غير اصطناع مصطنعات أخرى: هنا يختفي كل مفهوم للأصل، لحدث أصلي، لحقيقة أولى، بحيث لا يبقى مجال لغير المصطنع الذي يختفي معه كل الميتافيزيقا؛ كمرآة للوجود والمظاهر التي تكشف عن الوجود ومفهومه. «إنه الفوق - واقعي وقد غدا بمنأى عن الخيالي، وعن كل تمييز بين الواقعي والخيالي، فلا يترك مجالاً لغير التكرار المداري للنماذج ولغير التوليد المصطنع للفوارق»!  وقبل الختام لنا أن نتساءل: إذا كان الذكاء الاصطناعي والذي هو عبارة عن بناء “عقلي” من خلال البرمجيات المعتمدة على الخوارزميات، فهل يستطيع هذا البرنامج تمثل الصدق عند محاولته التعبير عن احتياجات النفس البشرية ونزعة الخيال الأصيلة والخلاقة لدى الكائن؟ هنا بمقدورنا تأمل ما عبر عنه غوستاف لوبون عند رأيه عن ثنائية العقل والوجدان، حيث: «العاطفة هي المفضلة على العقل لدى الشعراء والفنانين، والعقل هو المفضل على العاطفة لدى العلماء، فيعيش الشعراء والمتفننين في دائرة المعتقد على الخصوص، ويعيش العلماء في دائرة المعرفة»، والمعتقد - بناء على رأي دانيال كوهين - هو الذي يساعدنا على تقبل عالمنا والتكيف معه، بينما المعرفة هي من تحاول تفسيره. وفي الأخير، يجب أن نعترف بمدى تقدم التقنية في علاقتها بالأدب، حيث يجب المراهنة عليها بما قدمته إلى الآن من براهين على مقدرتها على توليد النصوص الأدبية. وما هو جدير بأن نختم به، رؤية الناقد كانياس عن الحواسيب التي سيتم التعامل معها مستقبلاً، لتكون جزءاً من المبدعين المجهولين الاسم خلال القرن الحادي والعشرين، وأن التغيير الرئيسي يجب أن ينصب على موقف القارئ. فنحن إذن نشهد ميلاد لأدب جديد، أو بالأحرى توسعاً في رقعة الأدب الذي نعرفه، وهو أدب أكثر تفاعلية وديموقراطية، وربما أكثر قصراً في العمر؛ حيث نجد أن دور القارئ يكاد يكون على نفس الدرجة من الأهمية التي عليها الكاتب. وإن هذا سينسحب على أهمية شخص الشاعر المهددة بالانزواء وقد تفقده شيئاً من نرجسيته، فالشاعر في الوقت الحاضر ومعه الوسط والقارئ على نفس الدرجة من الأهمية، كما أنه من البدهي أن هذين الأخيرين (الوسط والقارئ) قد بلغا شأواً كبيراً في عالم الشعر التفاعلي. وإن شخص القارئ هو بطل معجزة الشعر والأدب، فهو: «الكاتب القارئ».