في كتاب «المرتزقة قادمون» لجيرمي سكيل..

حين يصبح القتل مشروعاً استثمارياً!

هذا كتاب للمؤلفة جيرمي سكيل، تم نشره مترجما من مكتبة الأسرة التى تتبع الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2015، وقد ترجمته د فاطمة نصر وحسام إبراهيم، وأحسب أن ترجمته كانت مهمة شاقة لاحتشاد الكتاب بالمعلومات والأسماء، وهو كتاب يترك في عقل وقلب قارئه رعبا شديدا من مستقبل للبشرية يحترف فيه بشر القتل خارج المبادئ، وتستثمر كفاءتهم في جبهات متعددة وضد جيوش مختلفة وتتوزع مهامهم على أنحاء العالم.     كان ديك تشيني وزيرا للدفاع الأمريكي في حرب الخليج عام 1991، وهو صاحب فكرة خصخصة القوات المسلحة، وطبق ذلك في تلك الحرب، فكان واحدٌ من كل عشرة أشخاص تم نشرهم في منطقة الحرب مقاولا خاصا، مقاول خاص يعنى في حقيقته مرتزق، تم توظيفه عبر شركات خاصة بناء على مؤهلات، أفضلها أنه كان مجندا في الجيش ثم تقاعد، في المراحل الأولى كان معظمهم أمريكان، ولكن في سبيل تخفيض الأجور أصبحوا يوظفون من بلاد سبق أن عملوا جنودا فيها، و على الأغلب في جيوش لأنظمة ديكتاتورية، كجنود الجنرال بينوشيه في تشيلي، وبعضهم من دول كانت ترفض المشاركة في الحرب الأمريكية على العراق عام 2003، وفي فترة حكم كلينتون عمل تشيني في أحد مراكز صناعة الأفكار للمحافظين الجدد، وقاد المركز حملة من أجل خصخصة الحكومة والجيش. وقامت حكومة كلينتون بالتعاقد مع شركة تشيني أثناء حرب البلقان وفي حرب كوسوفو عام 1999، مثلا فُوضت شركة استشارية يعمل بها كبار ضباط الجيش المتقاعدين، لتدريب الجيش الكرواتي في حربه الإنفصالية في يوغسلافيا.   عاد فريق ديك تشيني- رامسفيلد إلى السلطة مع بوش الإبن. وجاءت أحداث 9/11 لتعطيهم الفرصة الذهبية، كان لدى الفريق هدفان رئيسان، أولهما تغيير النُظم في بعض البلدان الاستراتيجية، وتفعيل أشمل عملية خصخصة تعاقدات مع شركات خاصة في التاريخ العسكري للولايات المتحدة. وهكذا أصبحت بلاكووتر لاعبا مركزيا في حرب كوكبية شنتها أقوى إمبراطورية في التاريخ. وحين دخلت الدبابات الأمريكية بغداد عام 2003 أتت معها بأكبر جيش من المقاولين الخاصين، وبنهاية مدة رامسفيلد في الوزارة كان ثمة مائة ألف مقاول خاص على الأرض في العراق بمعدل 1:1 إلى جنود الولايات المتحدة الموجودين بالخدمة المدنية. وقد توالدت عشرات الشركات التي تعمل في هذا المجال. في أقل من عشر سنوات أصبح لدى بلاكووتر ما يربو على 2300 جندى خاص منتشرين في تسعة بلدان، ولديها قاعدة بيانات تشمل 21000 من أفراد القوات الخاصة والجنود السابقين الذين كان بإمكانها استدعائهم بمجرد أشعارهم، ولديها أسطول خاص مكون من مروحيات، مدفعية، ووحدة طائرات تجسس، ولديها منشأت عسكرية خاصة في أمريكا وفي جهات أخرى من العالم، ولديها أكثر من 500 مليون دولار من التعاقدات الحكومية، ولا يشمل ذلك ميزانيتها السرية للعمليات السوداء، وقد علق أحد أعضاء الكونجرس قائلا إن باستطاعة بلاكووتر الإطاحة بكثير من حكومات العالم.  متوسط أجر ضابط الأمن الشخصي في العراق كان 300 دولار يوميا، ثم ارتفع إلى 600 دولار مع تجنيد ضباط كبار لحماية بول بريمر الحاكم الأمريكى الأول للعراق. آخر عمل قام به بريمر هو إصدار قانون يعرف بالمرسوم رقم 17، يحصن به المقاولين ضد المثول أمام المحاكم، وبعد هذه الخطوة تجرأت القوات الخاصة على أعمال عنف، ففى حين أن جنود الولايات المتحدة قُدموا للمحاكمة بتهمة أعمال القتل والتعذيب في العراق كان جنود بلاكووتر ومثيلاتها محصنين ضد الملاحقة القضائية . عندما أنشأت بلاكووتر فرعها للاستشارات الأمنية عام 2003 اقتحمت عالم الجنود المعروضين للإيجار. إذ قادت الخصخصة إلى استخدام قوات خاصة لحراسة المرافق العسكرية، ثم لتوفير الخدمات اللوجستية حتى تتفرغ قوات الدولة لخوض المعارك. وفي نفس السنة وقعت بلاكووتر أول عقد لها وكان مع وكالة المخابرات المركزية (سي، آى، أيه)، وبناء عليه فقد تولى رجال بلاكووتر حماية موقع سي أي إيه في كابول وأصولها في المطار. وشاركت بلاكووتر كثيرٌ من الشركات المنافسة، وصلت تكاليف التعاقد من قِبل الإحتلال مع المرتزقة في نهاية فترة حكم بريمر إلى حوالي 2 بليون دولار وبلغ هذا 30 ٪ من ميزانية إعادة إعمار العراق التي اقتطعت منها تلك التكاليف. ووفقا لمجلة الإيكونوميست رفع احتلال العراق عوائد دخول الشركات العسكرية البريطانية من 320 مليون دولار قبل الحرب إلى 1.6 بليون دولار في بداية عام 2004، إذ في غضون سنة كانت شركة أرينز البريطانية الخاصة تملك جيشا خاصا من 1400 جندي بالعراق، يعمل به عراقيون وآخرون. وقد تباهى مقاول من بلاكووتر باستخدامه ذخائر محظورة .  في حرب الخليج الثانية احتلت القوات الأمريكية مبنى أحد المدارس ومقرا سابقا لحزب البعث في الفلوجة، اشتكى الأهالى من الإذلال عند نقاط التفتيش، ومن ممارسات أخري للجنود، تظاهر الأهالى وهتفوا ( لا صدام، لا بوش)، أطلق الجنود النار زاعمين أن المدرسة قد استُهدفت بالرصاص، الأمر الذي تشككت فيه منظمة هيومان رايتس ووتش التى حققت في الأمر، لكن اليوم الأول انتهى بمقتل ستين وإصابة خمس وسبعين، المذبحتان في الفلوجة اشعلتا المقاومة في العراق. أقام أهالى الفلوجة نظام إدارة محلي في تحدٍ مباشر لسلطة الاحتلال، رفض هؤلاء التعاون مع المحتل، ونجحوا في حماية المدينة من أعمال النهب والتدمير، وانسحب الجيش الأمريكي إلى تخوم المدينة، بعدها قامت المقاومة العراقية بهجمة شرسة على مقر الشرطة العراقية التي تدعمها القوات الأمريكية. قُتل ثلاثة وعشرون ضابطا، وخلال شهر أصبحت دوريات الميليشيا تمشط شوارع الفلوجة، وهنا أعلن بريمر: أنه لن يتحسن الوضع قبل أن تُفرغ الفلوجة. وأخذ بعض السكان في النزوح. وبدأت قوات المارينز في اقتحام البلد.  في ظل هذه الأجواء، كان أربعة من مرتزقة بلاكووتر جاؤوا حديثا للعراق يبدأون مهمتهم، أهل أحدهم كانوا يعتقدون أن ابنهم ذاهب لحماية بريمر. لكن الشركة وظفتهم لحراسة قوافل المركبات التي تنقل معدات المطابخ إلى جيش الولايات المتحدة، العقد الأصلى أشار إلى مخاطر العمل بالعراق، ودعا إلى وجود ثلاثة رجال من هؤلاء في كل مركبة، مع وجود ثلاث مركبات مدرعة لتغطية تحركاتهم، وقعت بلاكووتر عقدا من الباطن حدد شروطا أمنية متطابقة مع العقد الأصلى باستثناء كلمة واحدة “مدرعة”، وبذلك وفرت بلاكووتر مبلغ 1.5 مليون دولار. الرجال الأربعة الذين لم يتدربوا على العمل سويا كلفوا بمهمة مرافقة بعض الشاحنات التى ستحمل تجهيزات المطبخ من مكان قرب الفلوجة إلى إحدى القواعد العسكرية، إنطلق الرجال في عربيتي جيب غير مدرعتين، وكان كل اثنين في عربة، ولم يكونوا ثلاثة كما ينص العقد، مهمة الرجل الثالث كانت تصويب مدفع ثقيل آلى لحصد أى مهاجم. وبعد لأي استطاعوا أن يصلوا إلى الشارع الرئيسي في الفلوجة، وبالطبع ظنهم مقاومو الفلوجة من رجال المخابرات الأمريكية، أصبحوا صيدا سهلا، قُتلوا ومزقت أجسادهم، وتدلت بقاياهم على أعمدة الكهرباء وتم تصويرهم وشاهد العالم جثثهم.  وفي الصباح التالي استفاق الأمريكيون على أنباء القتل الدموية والهجوم الذي شنته قوات المارينز على الفلوجة طلبا للثأر، استدعيت إلى ذاكرة الأمريكان حادثة الصومال، في أكتوبر 1993 اسقط الثوار في مقديشو طائرة شراعية أمريكية، قُتل ثمانية عشر أمريكيا، بعضهم سُحل في الشوارع، وكان هذا حافزا للولايات المتحدة على سحب قواتها، ولكن هنا بخلاف الصومال لم يكن القتلى الأمريكيون الأربعة في الفلوجة أفرادا في جيش الولايات المتحدة، رغم أنهم لم يكونوا مدنيين كما زعمت كثير من وسائل الإعلام، ولذا لم تهتز لهم أمريكا، أما الشركة المشغلة لهم فكانت آمنة من الملاحقة القانونية، وفي الصباح التالي قامت ثلاث من كتائب المارينز تضم 2500 عسكريا تساعدهم الدبابات بإقتحام الفلوجة. وفي هجوم على أحد المساجد قًتل أربعون عراقيا، قصفت محطة الكهرباء عند بدء الهجوم، ثم استولى الجيش على مستشفى المدينة الرئيسى ومُنع علاج الجرحى فيه، ونقلت شبكات التلفزة الغربية صورة مروعة للمعاناة الإنسانية الرهيبة داخل المدينة. وخلال أول أسبوع وصل عدد من قُتل إلى 800 بينهم مئات النساء والأطفال من أهل الفلوجة. وتوالت الصور المفزعة، وذكرت صحيفة الديلى ميل أن الرئيس بوش قد أبلغ تونى بلير برغبته في قصف موقع قناة الجزيرة في قطر. نفذت القوات الأمريكية سبعمائة غارة جوية، ودمرت ثمانية عشر ألف مبنى من عدد مبانى الفلوجة التى تبلغ تسعة وثلاثين ألفا. وقُتل 150 جندي أمريكي.  وفي نفس اليوم كان مقاولو بلاكووتر يحرسون مقر القوات الأمريكية في النجف، وكان معهم أحد الجنود الامريكيين ومعهم جنود سلفادوريون، يراقبون حشودا من المتظاهرين العراقيين من أنصار مقتدى الصدر، ادعي أحد الأمريكان أن المتظاهرين بدأوا بإطلاق الرصاص ولكن ما أوردته صحيفة الواشنطن بوست يقول أن مقاولو بلاكووتر هم من بدأ إطلاق النار بغزارة، وأوضحت فيديوهات تسربت إلى الإنترنت أن مقاولو بلاكووتر كانوا يصدرون أوامر إطلاق النار إلى الجنود، وكان الأمريكان والسلفادوريون يفرغون أمشاط الذخيرة المشط تلو الأخر، ويصوبون الاف الطلقات ومئات من القنابل عيار 49 ملم. وفي النهاية انتقلت قوات أمريكية خاصة إلى داخل النجف وفرقت الحشود، قُتل ثمانية جنود أمريكيون وجُرح ستون، وعدد غير معروف من العراقيين، قًدر بالعشرات. ووصف القتال في النجف ذلك اليوم بأنه أكبر قتال بالأسلحة النارية حدث منذ سقوط بغداد، وكانت المحصلة أعمال عنف ثأرية قامت بها قوات مقتدى الصدر.    وجدت شركات المرتزقة ضالتها في دول اشتهرت جيوشها بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، استطاعت شركة بلاك ووتر التعاقد مع مرتزقة من تشيلى، كان منهم من دربته مدارس في الجيش الأمريكي دعما للجنرال بينوشيه، ووظفت أيضا مرتزقة من كولومبيا وهندوراس، رغم معارضة حكوماتهم لغزو العراق.     أصبح القتل مشروعا استثماريا. توسع كثيرا ميدان عمل شركة بلاكووتر فقد أوكل إليها تدريب فرق خاصة، أشرفت على أمن الألعاب الأولمبية التي أقيمت في اليونان عام 2004، وذلك بموجب برنامج الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب. وعندما دمر إعصار كاترينا منطقة أورليانز استطاعت شركة بلاكووتر توسيع ميدانها ليشمل الكوارث الطبيعية ويعلق الكاتب على الأرقام المالية التى جنتها، بأن ما ربحته بلاكووتر من الإعصار أكثر بكثير مما أفاده ضحايا الإعصار من خدماتها. كما استطاعت بلاكووتر الحصول على عقود لمنع المتسللين عبر الحدود المكسيكية. وما زالت صادرات الموت تتفاقم.