عبدالواحد الحميد .. ابن «الشعب» والنخيل والفكر الخصب.

هنا من الجوف الجميل، نما غصناً رطيباً من بين ترابٍ خصب وماء عذب، امتدَّ كنخلةٍ جليلة طويلة، شاسعاً كزيتونة مضيئة تمضي بأغصانها الحانية لتعانق التين والليمون وفسائل الأزهار بالجوار. ابتدأ ذلك الفتى رحلة التأملات والطموحات والإنجازات من حي (الشعب) العظيم كما يحلو له تسميته، ولهذا المُسمّى قصة طريفة ذكرها في كتابه (سنوات الجوف) حين قرأ مذيع إحدى الإذاعات الشهيرة آنذاك، حي (الشعب) بدلاً من (الشعيب) و يبدو أن المذيع والمُرسل استساغا الاسم. هو ابن الشعب والبلاد وفرادة التوقّد والامتداد ، هونبض الوطن الأخضر، والجوف المثمر، هو صورة الإنسان الكونيّ الذي ابتدأ من فكرة عناق التراب بالمطر والضوء بالصخر، كقامة جوفية جمعت عذوبة البساتين البديعة وكبرياء الحصون المنيعة. من يقرأ كتابه (سنوات الجوف) يتلمّس ملامح الطريق المأهول بالمفاجأت والشخصية المفعمة بالجسارة والنباغة والطموحات والسمت الحسن. ففي خمسينات وستينات القرن الماضي ابتدأ رحلته في اكتشاف الإنسان داخله والمكان حوله، تلك الفترة كانت أشد الفترات تسارعاً وتماوجاً وتداخلاً وتناقضاً، لقد كانت فترة التغيّرات الاقتصادية والثقافية العميقة. وفي طرقات سكاكا الترابية آنذاك ابتدأت الخطوات، حيثُ المجالس التي أثْرَتْ ذاكرته والأصحاب الذي رسموا واقتسموا شيئاً من روحه والمدرسة «الشمالية» بقسوة و «قوة» معلميها حين رسمت شيئاً من ذهنه و رؤيته. النخيل النحيل و «السواني» ، الطرقات المتسعة و وجوه المارّين التي منحتها الشمس الممتدة كثيراً من الدفءِ والجلال، الحكايا والوشايا والخبايا التي تمتدُ في المجالس، الأهازيج التي تنداحُ على شفاه النساء في البساتين في الصباحات الباكرة، الألقاب التي يتنابزها الرفاق في كل لقاء و دون أسباب، الحنّاء الذي يتبرجُ على الأكف اللامعة ليالي الأعياد، والضفائر المجدولة من جبين الشمس على كتوف الصبايا. اللغة شديدة المعاني وعميقة المباني في أصوات المعلمين، «عرعر» القريبة مكاناً والبعيدةُ عنواناً، عمّقت التناقض والانبهار بالأشياء و الأفكار ، لقد كان مرور خط «التابلاين» فيها كافياً لأن تكون مزاراً لكثيرٍ من المستجدات حتى رآها «أم الدنيا» كأنه يقول لنا: امتدوا و حلّقوا بعيداً فهناك ما يستحق العناء و يُكملُ الدهشة والتجربة و يثري الأذهان و الوجدان ! العاصمة التي يزورها فتتعاظم الفكرة وتتسع الصورة ويبدو العالم ضخماً والطريقُ مُحرّضاً على مزيدٍ من المسير والتفكير. انسكبت كل هذه الأطياف المتباينة في ذاكرته الأولى فرسمت الملامح الأبهى والأوفى لهذا الفتى. كان لوالدهِ (رحمه الله) المراسل الأول لصحيفة الجزيرة في منطقة الجوف الأثر البالغ في رسم و تعزيز كيانه المثقف، فلقد رأى الصحف والكتب الثرية في المنزل قبل أن يرى الماء والكهرباء ومظاهر المدنيّة، مارس العمل الصحفي مُبكراً فتعامل مع اللغة والفكرة والمجتمع بجسارة ذاتٍ وتطلعات، لقد بدأ بتكوين الإنسان داخله لغةً وتفكيراً و رؤيةً بشكل مبكرٍ وعميقٍ وحقيق رغم بكارة و براءة وبساطة المكان. ثم يغادر تلك المساحة التي امتدّت داخله و بقيت معه أبداً، رغم التجارب الضخمة والمعتركات الصاخبة والمنعطفات المفصليّة التي أوثقت ومكّنت شخصية ذلك الفتى، الفتى المثالي الذي أصبح سعادة المعالي، فالملامحُ والأفكار والمشاعر التي تنمو معنا مُبكّراً تبقى الأقدر والأجسر على امتلاك و تكوين الذاكرة والشعور واكتمال الحضور. إنّ سعادة الدكتور عبدالواحد الحميد، كنخلة «الحلوة» الراسخة عميقاً في «الجوف» الفينان، والعالية بعيداً بجلالها لأقصى عنان، والظليلةُ أبداً بسعفها المتماوج الذي أظلّ واحتضن المكان والإنسان. هو القيمة والقامة، العلامة الفارقة والبصمة الواثقة، الاسم القدير و الروح الجدير، الذي أضاء ويضيء الحراك الثقافي في منطقة الجوف عبر منارة مركز السديري الثقافي بعملٍ نوعيٍّ واثق، يقف خلف كثيرٍ من المبدعين و الرائعين بتمكينهم وتعزيزهم فكراً و ثقافة ولغة و ذاتاً عبر البرامج الثقافية والأدبية والمكتبة العلمية في المركز والتي تُعد النواة الأولى واللبنة الأساسية في تكوين العقلية المثقفة والمتطلعة والمبدعة للمجتمع الجوفي. و دعوني أختم بقولي إنّ مجرّد مصافحة اسم «عبدالواحد الحميد» لمسامعنا يجعلنا نشعر بانتصارٍ و افتخارٍ نفسيٍّ و ثقافيٍّ عالٍ و غال، إنه القيمة الثقافية المخبوأة في الأرض والنبض، المضيئة في سماوات الجوف وعليائها ، و دروب و قلوب أهلها. *كاتبة وشاعرة منطقة الجوف