
حين يغترب الإنسان عن نفسه ثم يسقط في عتمة العنف والغضب والظلام وهي أدوات كافية لصناعة بطل وهمي، بطل زائف يظن أن مهمته تطهير العالم من مخلفات البشر الحضارية، هذا ما يحدث داخل الأدمغة التي تتبنى الإرهاب كفكرة لتبرر بعد ذلك كل الجرائم بكونها تسعى فقط لجعل العالم مكاناً أجمل ! هذا بالضبط ما حدث مع بطل فيلم “سكورسيزي” (تاكسي درايفر) والذي كتبه “بول شريدر” وقام ببطولته “روبرت دينيرو” في آداء تاريخي، وهو ليس مجرد عمل سينمائي، بل صرخة وجودية في وجه العزلة الحضارية والاضطراب النفسي، صدر عام 1976، لكنه لا يزال حيًا في الذاكرة الجماعية، ومرجعًا دائمًا في تحليل ما يُعرف بـالبطل الزائف، وتدور القصة حول “ترافيس بيكل” جندي سابق في فيتنام، يعاني من الأرق والعزلة والاضطراب فيعمل كسائق تاكسي ليلي في شوارع نيويورك، في تلك الليالي الطويلة فتتراءى له المدينة وكأنها تغرق في القذارة والانحلال الأخلاقي فيقرر أن عليه تطهيرها! يواجه ترافيس عبث الحياة في مدينة مليئة بالضوضاء والانحلال، دون أن يجد أي رابط حقيقي يربطه بالعالم، يحاول أن يبقي نفسه منشغلاً طوال الوقت لكنه يغوص أكثر في الفراغ الروحي، لا يملك هوية واضحة ويعيش في عزلة داخلية رغم وجوده وسط الملايين، عالق في الشعور باللاجدوى، حتى يرى نفسه منقذًا يريد تطهير المدينة من القمامة فيتحول إلى قاضٍ وجلاد في آنٍ واحد، وهذا ما يعطيه شعورًا زائفًا بالقيمة والبطولة، ليتحول إلى شخص عنيف ومسلّح ليس عن قناعة أيديولوجية، بل عن فراغ داخلي. وما يعيشه من أرق دائم و عزلة واضطراب في التفكير والسلوك، كلها مؤشرات لاضطراب ما بعد الصدمة والفيلم لا يذكر هذا صراحة لكنه يوحي بذلك من خلال النظرات و الهلاوس والسلوك القهري، والميول التدميرية، فالفيلم كله يدور حول محاولة فرد واحد (ترافيس) أن يجد معنى في مدينة بلا معنى، كل علاقاته تنهار مع “بيتسي” التي أحبها ، ومع نفسه، ومع الطفلة “آيريس”، وكل محاولاته لإحداث فارق تنبع من يأس وجودي لا من قوة فنراه يتحدث إلى نفسه في المرآة مما يرمز لانفصاله عن الذات، ثم محاولته لخلق هوية جديدة بشراء المسدس وبناء العضلات وهي أدواته للتحول من ضعيف إلى بطل زائف، لينتقل إلى الشخصية الثانية فيقرر مثلاً تحرير الطفلة آيريس والتي تمثل الطفولة المفقودة والبراءة المستغلة، الضائعة في عالم قاسٍ، ترافيس يرى في إنقاذها خلاصًا شخصيًا، لكن قد يكون مدفوعًا بإثبات رجولته أو خلق معنى لوجوده. كتب موسيقى الفيلم “بيرنارد هيرمان” قبل وفاته مباشرة، وهي من أكثر عناصر الفيلم تأثيرًا، تحتوي الموسيقى على تناقض عاطفي مذهل، موسيقى جاز ناعمة ومنفردة غالباً على ألة الساكسفون، وبطيئة في المشاهد الليلية، توحي بالحنين والرومانسية الكاذبة، تقابلها موسيقى مشوشة، متوترة، ومقلقة تعكس اضطراب ترافيس الداخلي، هذه المفارقة تخدم فكرة الفيلم الأساسية بأن العالم يبدو طبيعيًا من الخارج، لكنه مختلّ تمامًا من الداخل، ترافيس مثال حي لشخص منعزل تمامًا عن المجتمع لا أصدقاء، لا علاقات حقيقية، غير قادر على التواصل العاطفي، هو حاضر جسديًا لكنه غائب ذهنيًا عن العالم من حوله، يقضي لياليه كسائق تاكسي في شوارع نيويورك، يراقب الناس من نافذة سيارته وكأنهم مخلوقات غريبة، حيث يشعر بانفصال عميق عن العالم وفقدان للمعنى، والفيلم ليس فقط عن رجل مضطرب، بل هو مرآة للمدينة وللإنسان الحديث، الذي يبحث عن معنى في عالم خانق بلا روابط، فيصنع أحيانًا بطولته الزائفة من الوهم والعنف، يعاني من فقدان البوصلة الأخلاقية وهذا ما يجعله خطيرًا كما أنه يرى نفسه بطلاً بينما هو في الحقيقة قنبلة موقوتة، يظهر مارتن سكورسيزي المدينة وكأنه لا يوجد بها أي خير واضح، فقط رماديات فهو يتعامل مع نيويورك في هذا الفيلم كأنها جهنم دنيوية، يزداد اشتعالها كلما غاص ترافيس أكثر في هواجسه. في نهاية الفيلم ترافيس يقتل القوادين وينقذ آيريس، ويُعامل من قبل الإعلام كـبطل، وتبدو حياته وكأنها عادت إلى طبيعتها، لكن هناك نظريات تقول إن هذه النهاية مجرد هلوسة أو خيال أخير قبل موته، توحي بذلك الحركة البطيئة في النهاية وطريقة تصويره من المرآة ونظرة عينيه الأخيرة للكاميرا، هل حقًا صار بطلاً؟ أم أنه فقد عقله تمامًا؟ هذا الغموض هو أحد أسباب عظمة الفيلم. لغة الفيلم غالبًا أصوات داخلية، صوت ترافيس من داخل ذهنه، هناك مسافة بين ما نراه وبين ما يفكر به، وهذا يجعل المشاهد متورطًا ذهنيًا ويتساءل هل نحن متعاطفون مع شخص مضطرب؟ وهل نحن نبرّر العنف أحيانًا فقط لأنه يبدو مبرّرًا؟ “Taxi Driver” لا يقدم إجابة بل يُجبرنا على طرح أسئلة مثل من هو البطل الحقيقي؟ هل يمكن أن يتحول الإنسان من ضحية إلى وحش؟ ماذا نفعل مع أولئك المهمشين الذين يعيشون في الظل؟ إنه تأمل عميق في العنف، والوحدة، والهوية والبطولة المشوهة، ففي اللحظة التي يتخلى فيها عن أي محاولة للتفاهم أو الاندماج، يتحول إلى أداة عنف دون رجعة، ترافيس يقتحم بيت الدعارة ويقتل القوادين والزبائن، لينقذ آيريس من الاستغلال الجنسي، عنف ودماء وكأن سكورسيزي يتعمد جعلك تشعر بالاشمئزاز من العنف، وبعد نهاية المجزرة وإصابة ترافيس بعدد من الطلقات يُشير بإصبعه إلى رأسه وكأنه يقول أطلقوا علي، الكاميرا تصعد للأعلى ببطء كأنها تخرج من جسد يحتضر أو تراقب روحًا تغادر، هذا ليس نصرًا، إنه مشهد انتحاري، صرخة أخيرة من رجل ضائع، لكن المجتمع يعيد تشكيل القصة ويحوّله لبطل إعلامي، ما يعكس نفاقًا مجتمعيًا خطيرًا بعد المجزرة ترافيس ينجو ويُعامل كبطل، وبيتسي تراه فجأة كشخص محترم، ترافيس يبدو مستقرًا، لكن نظرة عينيه الأخيرة في المرآة غامضة ومقلقة، ربما مات بالفعل، وكل ما نراه هو ما كان يتمنى أن يحدث! الوحدة ليست شعورًا عابرًا في الفيلم بل الهواء الذي يتنفسه ترافيس. لا أصدقاء، لا عائلة، لا حوار حقيقي. حتى محاولاته للتقرب (مثل دعوة بيتسي للسينما) تنتهي بشكل مؤلم، مما يزيد من عزلته، الحوارات الداخلية لترافيس مكتوبة بأسلوب يوميات مضطربة، اللغة بسيطة، لكنها مليئة بالسخرية والغضب والتهكم، يستخدم شريدر ترافيس كعدسة يرى بها المجتمع الأمريكي بعد فيتنام كمجتمع فاسد، منهك بلا بوصلات أخلاقية كما يستخدم الإضاءة المنخفضة والضباب والألوان الحمراء والصفراء لخلق جو خانق، الكاميرا أحيانًا تنحرف ببطء كما في نهاية المجزرة. النهاية تظهر ترافيس وهو حي، مشهور، منتصر، لكنه يبدو منفصلًا تمامًا عن الواقع يعتبر من أعظم أفلام التاريخ، ضمن قوائم AFI وSight & Sound وغيرها. “Taxi Driver” ليس عن نيويورك فقط بل عن كل مدينة في داخلنا تلك التي نغلق شوارعها ونطمر آلامها ونعيش فيها منعزلين، إنه فيلم عن رجل تحطم لأن العالم لم يمنحه فرصة للفهم أو الاحتواء فقرر أن ينتقم بطريقته الخاصة، سكورسيزي وشريدر ودي نيرو صنعوا تحفة، لا تشيخ ولا تفقد تأثيرها لأنها ببساطة تجسيد حي لقلق الإنسان الحديث وهوسه بالخلاص حتى ولو بالدم.