قراءة في مجموعة ناصر الجاسم القصصية (النور الأسود)..

بين غرائبية المنحى وأسطورية التشكيل وواقعية المغزى وفلسفية التأويل.

تفاجئنا منذ البداية في المجموعة التي تضم خمس عشرة قصة الأجواء الأسطورية والطقوس السحرية والكائنات الخفية (الجن والمردة و العفاريت) والأجواء الغرائبية والبخور والنزعة الخرافية في إطار الحكاية الشعبية التي تثري الخيال وتهدهد النفوس بأجواء الرقص والغناء وتوحي بانطباعات ورؤى فيها عمق وأفق تأويلي يغري بالتحليق في فضاء من الدلالات والمعاني، وتؤطر ذلك بما هو مألوف في الوعي البشري عن الجن وعوالمهم الغامضة ، وتمزجه بتوابل تشويقية خارقة للمألوف في الحياة البشرية ، وذلك كله على نحو مدهش وصادم في الحياة البشرية؛ فهي تنبني على المفارقة بين الخارق والمألوف ، وازدواجية الجن والإنس: الحطاب الي يقضي جل وقته في البراري الموحشة ينتقل من مكان لآخر كي يظفر بحزمة حطب والانخراط في عوالم الجن رقصاً وغناءً بما يشبه حفلات الزار التي يستشفي بها طائفة من الشرائح الشعبية عبر الغناء والرقص مع تلك الكائنات الخفية، ثمة ثنائيات تنهض على الائتلاف والاختلاف ، ففضلاً عن ثنائية الجن والإنس هناك ثنائية الأنوثة والذكورة عبر الإلماحات الشبقية : السروال والسهر الليلي ثم المفارقة بين الفقر المدقع و الغنى الفاحش ، حيث يعود الحطاب الذي انهكته مهنته في جمع الحطب وآفة الحدبة في ظهره ،تأتي الانفراجة في لحظة التنوير فإدا به يرفل في الثراء والغنى و الذهب. السؤال الذي يطرح نفسه: هل تعد هذه القصة من الأدب الفانتازي الي يقصد به الإدهاش والتسلية أم أن المغزى فيها أبعد من ذلك؟ ففضلا عن توفّر السمات الفنية من حيث التوتر وبلوغ الذروة فيه ، ثم الاتجاه نحو لحظة التنوير ؛ ثمة انطباع موحد وفقا لنظرية فن القصة القصيرة (فن الجماعات المقهورة) كما يطلق عليه. هل نعود إلى مربع الحديث عن قضية أدب التسلية وأدب النخبة ، هل السؤال يظل قيد الجدل والمراجعة ؛ هل يمكن أن أغامر بالقول أن الكاتب عمل على الإسهام في حركة الحداثة الخاصة بالقصة القصيرة فعمد إلى استلهام الحكاية الشعبية ليغوص إل عمق الوعي ، وينبش في ما وقر فيه من رغبة في استنقاذ هذه الفئة باستدعاء مخزون الوعي معبراً عن توق هذه الطائفة من الفقراء إل الخلاص من معاناة الفقر والمرض ؛ حيث يبدو أن ذلك يحتاج إلى ما هو أقرب إلى الخيال ليتحقق. ويبدو ذلك منهجاً ورؤيةً ، يؤكده ما ذهب إليه الكاتب في قصة (الأغطية) التي تذكرني برواية (ميرامار) لنجيب محفوظ التي قدم فيها نماذج من الشخصيات التي تنتمي إلى شرائح اجتماعية متعدّدة ؛ لكلٍ منهم همومه وطبيعته الخاصة ومأزقه الشخصي ؛ رواية (ميرامار) لنجيب محفوظ تدور أحداثها في الإسكندرية داخل بنسيون يحمل الاسم نفسه، وتُروى من خلال أربعة شخصيات مختلفة، لكل منها وجهة نظره حول الأحداث: البطلة المركزية هي زهرة، فتاة ريفية جميلة تهرب من قريتها لتعمل في البنسيون فراراً من العادات والتقاليد والاضطهاد، الرواية تسلط الضوء على الصراعات الاجتماعية والسياسية في مصر ما بعد ثورة 1952، حيث تمثل الشخصيات المختلفة تيارات فكرية وسياسية متنوعة ،والرواية تصور فشل النُخب في تحقيق العدالة والتغيير، فالمقهى – هنا – مقابل البنسيون في الرواية والمغنية العبرية مقابل زهرة ، والشخصيات الأخرى مأزومة شأنها شأن شخصيات ميرامار ، فقد عمد الكاتب إلى تصوير أجواء المقهى بملامحه وتفاصيله المألوفة : القهوة التركية و التبغ الأمريكي والغناء العبري ، وفي تركيزه على المغنية العبرية ما يضيء القصة كلها كالدور الذي نهضت به (زهرة) وقد شكلت الشخصيات التي اختارها نماذج مأزومة، يصلح كل منها لأن يكون محوراً لقصة مستقلة ؛ ف(سعيد جبران) المثليّ النزعة و(مهدي عمران) رجل في النهار وحيوان في الليل و(صادق الأجود) المغطى بالإنجليزية التي تداري خواءه وهو الأستاذ الجامعي المزيف و(سامر الهولي) سليل العلماء والقضاة المارق النجِس و(فرج عيد) الذي يعاني من عقدة السواد ، وهكذا يبدو هذا اللون من القص في نزعة حداثية تجريبية ، وقد كان للحظة التنوير في ختام الوصلة الغنائية للمغنية العبرية متمثلة في سؤال المحاسب المصري واضحة المغزى معبرة عن الأزمة ؛ ولكنني أقترح أن تتحول إلى نص روائي يتسع لرؤيا الكاتب إن جاز لي ذلك. وقد انتهج الكاتب هذا الأسلوب في أكثر من قصة من قصص المجموعة، كما في قصة (الحواجز) حيث المشهد الجماعي للممارسات الأنثوية (الرقص والغناء) والتعريف بالشخصيات اللواتي ينتقدن الرجال ويتهمنهم بالنفاق والغفلة والزيف من خلال البوح بتجاربهِنَ الخاصة مع الرجال الأقربين والأبعدين في نزعة انتقادية ساخرة ، وهن شخصيات نسائية نايفة المطر وغنيمة العلي وحمدة الدريس. وفي القصة التي تحمل عنوان المجموعة (النور الأسود) تتبدّى ملكة التخيّل والتخييل ، وتتضح النزعة الشهوانية الشبقية لدى بطل القصة ، فيتمثلها متتبعاًُ تفاصيلها من خلال الأوراق النقدية التي تحمل نكهة أنوثة صاحبتها ، وتعكس القصة التوتر الذي يعاني منه صاحب المحل التجاري بسبب يقظته الشهوانية، إنه يحسن التقاط البؤر المثيرة في جسد المرأة ويخترق الحجب في تقصّيه لهواجس الغريزة وتبعاتها النفسية وانفعالاتها الحسية ؛ فبؤرة الاهتمام في لحظات التوتر والقلق هي المثيرات الأنثوية ، وقد اختار الكاتب عنواناً دالّا على مفارقة النور والظلام مُركِّزا على بؤرة التوتر ومناط الاهتمام. وبدا الكاتب بارعاً في بناء شخصياته المأزومة في إطار رؤية واقعية انتقادية، فثمة من يبيع دمه بعد أن فشل في الحصول عل الوظيفة وخابت آماله في ممارسة رغباته وطموحاته ونزواته ، وقد استثمر الكاتب البعد الدلالي لـ(الدمام في العزف عل وتر الدم) فهنا تتبدى المفارقة بين الطموح في حياة باذخة في الدمام واضطرار لبيع دمه ، فجعل عنوان قصته (الدمدام) وهو عنوان له إيقاع ساخر، سخرية تندرج في إطار الكوميديا السوداء ، وهو ما ينسجم مع العنوان الرئيس (النور الأسود) الذي شحنه الكاتب برمزية لونية بالغة الدلالة. وثمة ما يومئ إلى ظاهرة أخرى في هذه المجموعة تتمثل في استكمال عالمها المشحون بالغرائبية في إطارها الطقسي المعرفي يمكن إدراجها في جماليات التشويق الجاذبة للقارئ ، فثمة طقوس غريبة ترفدها معتقدات صادمة تعتقد بها بعض المجتمعات التي تهيمن عليها قيادات روحية أقرب في ممارساتها إلى ما كان سائدا في العصور الطوطمية ، كما في قصة (جلاد الموتى) وفي اعتقادي أن الكاتب كان فيها منسجماً مع نهجه الرئيس في هذه المجموعة القصصية التي تزخر بعوالمها المزدوجة التي يتقاطع فيها الخيال مع الواقع و الغرائبية مع ما هو مألوف ، تصوّر حياة اجتماعية مأزومة تعيش عصوراً موغلة في القدم ، وتتبدّى الجرأة في اقتحام دوائر محظورة في العرف الأخلاقي والاجتماعي والديني أيضاً ، فالحديث عن جلد الموتى لتطهيرهم وتكسير أيديهم والاقتراب من موطن العفة للمرأة في إطار ذلك التطهير عل نحو ما فعلته (بركة) الموكلة بجلد الموتى من النساء والتلبّث عند ما يُعدّ في إطار (التابو الجنسي) فالكاتب يتوغّل في ها العالم الغرائبي ناقلا خاصية التوتر التي يتسم بها المتن السردي في فن القصة القصيرة من النسق التعبيري إلى السياق الاعتقادي ، ومن النسق الجمالي إلى النسق الفكري، وثمة ملمح بالغ الرهافة يتمثل في رقة الأنوثة وفقدان القدرة لدى جلّادة الموتى (بركة) على القسوة في تعاملها مع جثة المرأة و التظاهر بممارسة طقس الجلد عل الجدار بدلا من جلد جثة الأنثى. الموت من المحاور الرئيسة في المجموعة، وهو موت استثنائي كما في قصة (الخيبات) موت ينجب الحياة للطفل الذي يخرج من جثة أمه ويلعب مع هوام القبور ثم يعود ثانية (فانتازيا) لا تحتمل التصديق ولكنها مكتظة بإمكانات التأويل و الترميز ؛ القلق الذي يساور فني المختبر المكلف بإجراء التحاليل للموتى الذين تكتظ بعيّناتهم دوارق المختبر ، عميقة هي الرؤية في منطلقاتها حيث التسارع والتوالي في جنازات الموت و التحليق في فضاءات الكينونة وغرائبها ، والشرف ودواعيه والخيانة وآفاتها. وفي قصته (ركّاب الجن) مشهد فانتازي غرائبي احتفالي ، يبدؤه بتحديد الفضاء المكاني بتخومه التي تحمل أسماء ذات دلالات موحية بالوحشة والغرابة من منظور بشري موسوم بالعاهات : الشيخ بعيونه المفعمة بالماء الزرقاء والأرض المحاطة بالمقابر والثبور والأسماء المشحونة بالكائنات الخفية و الجن و أسماء سادة الجن من ركاب و مرقصين ومشتغلين بتجارة الجن وطقوسهم الرديني القيادي القوي والحميدي بائع الجن والجهيني مرقص الجن والصويني ركّاب الجن وأنواع الجن : جن الماء وجن التراب وجن الهواء وجن النار ، والتوقف عند الرغبة الشهوانية في ذروة نهوضها عند الصويني الذي انتقم منه ذكور الجن لاجترائه على إناثها ، نهج أسطوري غرائبي يستقيم مع أسلوبه في تشكيل القصة وشحنها بالخوف والقلق عل نحو مغاير للمألوف في هذا الفن ؛ يتسق مع الأجواء الغرائبية التي عكف على نشرها ، وكما يبدو فإن هذه الأجواء السحرية لها علاقة بتراث المنطقة وثقافتها وأنماط العيش وطرائق التفكير فيها واعتقاد في رؤية تأصيلية تسلك سبيلاً مغايراً للمألوف في شعرية ها الفن . وثمة سدد أسطوري بحت يحمل خصائص الأسطورة وسماتها كما في قصة (طائر العرفج) والعرفج كما هو معروف نبات مُعمّر طيب النشر دارت حوله كثير من الأساطير ، وقد استلهم الشاعر ما دار حول ها النبت في التراث الشعبي في هذه القصة ليصنع أسطورته الخاصة التي يفسر فيها خصائص أنثوية ، مثل الغيرة والتوق الشهواني و الرغبة في إظهار المفاتن ، وجعل بطل القصة عرافة تروي تنبؤاتها عن هذا الطير الأسطوري بما يتميز به من خصائص تكشف عن طبائع الأنثى في نسق سردي نظيم متسلسل وحشد أنثوي مُعبر. ومهما يكن من أمر فإن هذه المجموعة تثير كثيراً من الأسئلة ، وهي حافلة وثرية ، وقد يضيق المقام عن تقصي ظواهرها الرؤيوية والجمالية التي تستلزم دراسة أوفي ومساحة أوسع.