الأمل.. خيار الإنسان الأزلي

في 12 يوليو من كل عام، تقف البشرية لحظة تأمل وترقب مع “اليوم الدولي للأمل” الذي أقرّته “الجمعية العامة للأمم المتحدة” ليكون دعوة أممية متجددة لتثبيت واحدة من أكثر القيم تأثيرًا في مسيرة الإنسان. “الأمل” ليس ترفًا شعوريًا أو شعارًا لفظيًا، بل هو في جوهره آلية وجودية، واستراتيجية بقاء، لا يتسع عيش الإنسان دونه، كما قال “الطغرائي - ت.514هـ “: أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ يعيش العالم اليوم شبه حالة من الاضطراب الشامل، حروب معلنة، وصراعات كامنة، انهيارات بيئية، وتفاوت اقتصادي، وكل هذا يهدد نسيج الإنسانية. وفي خضم هذه الظروف القاسية، يكتسب “الأمل” قيمة كبيرة، ليس فقط لمداواة الذات، بل كأساس لتصور المستقبل وبنائه. وقد عبّر “الأمين العام – الحالي - للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش” عن ذلك حين قال: “الأمم المتحدة هي وليدة الأمل. الأمل الذي بُعث في أعقاب الحرب العالمية الثانية”. وتُظهر التجربة الإنسانية منذ أقدم العصور ان الإنسان لا ينجو من محنه المتكررة إلا بشعلة الأمل التي تحفظ له الاتزان وتدفعه إلى البناء رغم الإحن والمِحن. وقد أشرتُ في مقال سابق بعنوان “محنة الإنسان الأبدية” نُشر في “مجلة اليمامة” بتاريخ 02/05/2024م إلى أن المحنة ليست شيئًا سلبيًا صِرْفًا، بل يمكن النظر إليها كمصدر للإلهام والتعلُّم والنمو، فحينما خرجت أوروبا من دياجير الحربين العالميتين، لم تكن تملك سوى أنقاض المدن وآلام الشعوب، لكنها استعادت حياتها بتغذية خطاب الأمل، وتوظيفه على كافة الصٌعد: سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، لتنهض من تحت الركام مجددًا. في “القرآن الكريم” جاء “الأمل” في صلب العقيدة الإسلامية، حيث قال تعالى: “ولا تيأسوا من رَوْح الله” سورة يوسف، آية 87. فالأمل هنا ليس فقط أداة للتعامل مع المحنة، بل هو فعل إيماني يعبر عن الثقة برحمة الله وتدبيره. كما يحتفي الدين المسيحي بالأمل ضمن ثالوثه الإيماني (الإيمان، الرجاء، المحبة). أما في المعتقدات البوذية فإن الأمل يشير إلى إمكانية التحرر من العوائق الداخلية عبر الممارسة والتأمل، مما يجعله عنصرًا جوهريًا في السعي نحو السكينة والتجلي. قد يكون “الأمل” من أكثر المفاهيم حضورًا في الفكر الفلسفي، حيث قال الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه 1844 -1900م “”من يملك سببًا للعيش يستطيع تحمّل كلّ شيء تقريبًا”. كما رأى الفيلسوف “إرنست بلوخ 1885 – 1977 م” في كتابه “مبدأ الأمل” “أن الأمل ليس مجرد تطلع نفسي، بل طاقة إيجابية كامنة تدفع المجتمعات نحو التغيير الجذري، وتُؤسّس للمستقبل انطلاقًا من الحاضر” أما الفيلسوفة “حنّه آرندت 1906 – 1975م” فترى “أن الأمل لا يكتمل إلا بالعمل، فبغير القدرة على المبادرة يصبح الأمل أقرب إلى الوهم”. كما كتب “فيكتور فرانكل 1905 – 1997م” في كتابه “الإنسان يبحث عن معنى” “الأمل هو ما يجعل الإنسان قادرًا على تجاوز أقسى الظروف”. من هذه المفاهيم العميقة نخلص إلى أن الأمل ليس مشروعًا سياسيًا أو أداةً للنجاة فحسب، بل هو موقف أخلاقي أيضًا. كما أنه ليس شعارًا فضفاضًا، ولا مخيالًا شعبيَا، بل هو طاقة استراتيجية لبناء المستقبل. إنه الدعامة الأولى للنهضة، والإطار العاطفي للتنمية. وفي عالم تسوده التحديات، يصبح الأمل ضرورة وجودية، واستراتيجية بقاء، وقنطرةً عبور نحو المستقبل. ولعل الاحتفاء بـ “اليوم الدولي للأمل” يكون فرصة مواتية لتجديد إيماننا بهذه القيمة العظيمة، ليس فقط كأفراد، بل كمجتمعات ومؤسسات، لنؤكد أن الأمل لا يُولد من الفراغ، بل يُصنع عبر الرؤية، والإرادة، والعمل المشترك.