ميلاد في رحم الموت!

في كتابه «خيط من حبر» قرأ الكاتب الأديب خالد بريه حكاية الزير سالم، وتجلّى في الكشف عن المضمر وراء الشخوص، ووضع يده على الخيط النفسي الممتد بين الشخصية والمتلقي، فكان هذا الخيط بمثابة الضوء الكاشف، وقد قدم شخصية الزير نموذجا لهذه القراءة التي وددت أنها تعقبت الشخصيات واحدة تلو الأخرى، لكن ذلك حتما كان سيحوجه إلى كتاب كامل يسير فيه على هذا النحو النابه في استبطان الأحداث والشخوص. راقتني القراءة كثيرا، فكل شخصية يمكن أن نفهمها ونتفهّمها من زاويتين، مع أو ضد، ويمكن أيضا أن نوغل في البعد النفسي للمتلقي كما فعل ونقرأ واقعنا من خلال ذلك. وبرغم أن مقالته في الكتاب لم تكن تسمح بالمزيد من تحليل الشخوص إلا أني شعرت والقراءة توغل في الشخصيات التي حللها برغبة في أن أستمر معه في رصد أكثر من شخصية كشخصية كليب وهي الأبرز، وشخصية الجليلة وجسّاس والحارث ين عباد، وهمام ووالده مرة بن ذهل، وشخصية حجدر التي أشار إليها وألمح لثيمتها في الحدث الدرامي، فكل شخصية في هذه الملحمة الأسطورية تعكس واقعا وبعدا نفسيا ووجدانيا حين نتلمّس الخيط الممتد بين ماضينا وحاضرنا. ومما أشار إليه الكاتب أن شخصية الزير تتمحور حول فكرة ميلاد الذات في رحم الموت والفناء وتتمركز حول أن الزير ولد ولادة جديدة في الحرب، فلم تعد بالنسبة له وسيلة للأخذ بثأر كليب، بل صارت غاية « فالحرب تعيد إليه اعتباره لنفسه، وتجعله يتبوّأ صدر المجلس، تجعله يتشبّه بكليب، مثله الأعلى، ليصبح هو كليبا في إهاب المهلهل». يعزز ذلك أنه حين فقد ذاكرته فقد الحرب وحين استعادها استعاد الحرب من جديد لأنها لم تعد تمثّل له ثأرا بقدر ما تمثّل ولادة لذاته بعد أن كان مفقودا من قبلُ في الحانات إلى أن عثر عليها -ويا للأسف- في ولادة كانت موتا لكل من حوله من الأصدقاء والحلفاء، ثم عثر عليها ثانية في انبعاثه من جديد بعد استعادة الذاكرة. وعلى هذا النحو تمضي بنا القراءة ببصر نافذ عميق النظر، زادها عمقا ربطها بين ماض وحاضر مع أسلوب يجري في عذوبة وانسجام، لا يتركك حتى تبلغ النهاية وأنت تطلب المزيد، لتوغل في أبعاد الشخوص وما وراء الأحداث التاريخية في هذه الملحمة التي جمعت بين الواقع والأسطورة.